في جولة أريحية في واحدة من الجامعات الأمريكية المهمة «كارنيجي ميلون»، كنت مع صديق عرج بي إلى المكان الذي يرتاده «راندي باوش»، وإلى حيث القاعة التي ألقى فيها محاضرته الأخيرة الشهيرة. اعتادت هذه الجامعة أن تدعو فيها أحد المدرسين والأكاديميين ليلقي محاضرة يسمونها «المحاضرة الأخيرة»، ربما لأنها تكون آخر محاضرة في السنة أو لغير ذلك. المهم أن الجامعة درجت على هذه العادة. وكانت نوعا مهما يقدمه الأكاديميون خارج السياق الأكاديمي ليتحدثوا عن تجاربهم وخبراتهم. في تلك المرة 2008 كانت المحاضرة بالفعل كأنها الأخيرة حيث كان المحاضر هو «راندي باوش» ذلك الأستاذ الذكي الذي اكتشف غير بعيد أن مرض السرطان قضى على البقية الباقية للأمل في حياته. فوضع له الطبيب فترة بسيطة متوقعة للعيش. وكانت بالفعل «محاضرة أخيرة» ألقاها في حشد رهيب وبطريقة عجيبة. تحدث فيها عن أحلام صباه وعن رؤاه. عن العقبات التي كان يظنها ستوقعه ولكنها دفعته. بدأها محذرا من أنه لن يتحدث عن السرطان لأنه استهلك الحديث عنه، ومل تكراره ولم يعد يرى جدوى من قتل نفسه نفسيا وبشكل مبكر، وبأنه لن يتحدث عن أطفاله وزوجته لأنه بكل بساطة لا يريد أن يحول المحاضرة إلى مناحة. لم يكن ينعى نفسه فحسب في هذه المحاضرة، كان يقدم خبرته العالية وعلمه على الطاولة بنَفَس لاهث وجسم عليل وريق جاف. تحدث فيها عن أصدقائه فشكرهم وعن تلاميذه فأثنى عليهم. ولم يتحدث عن أطفاله إلا حينما قاربت المحاضرة على الانتهاء فبكاهم. وقال: علينا ألا ننسى المناسبات المهمة لمن نحب. ولذلك فإني أقدم هذه المفاجأة، ثم فتح الستار على كيكة كبيرة ليقول: إن هذا اليوم هو يوم ميلاد زوجتي «عيد ميلاد سعيد»، فقام الحضور إجلالا، وغرقت الزوجة بالدموع. لاحقا، «باوش» حول تلك المحاضرة إلى كتاب جميل ترجم للعربية باسم «المحاضرة الأخيرة» وكان «راندي باوش» واحدا من الثلة القليلة في التاريخ الإنساني الذين رثوا أنفسهم على المسرح! أبكاني «راندي باوش» كما أبكاني ذات مرة مالك بن الريب الذي يذكر الأدباء أنه أول شاعر إنساني يرثي نفسه بحسب التاريخ الأدبي المدون.