حظي هذا الكتاب بإقبال واسع من القراء والمهتمين في مختلف دول العالم لأنه يكشف عن التحول الايديولوجي المفاجئ الذي اعترى مؤلفه المستشرق اليهودي المعاصر برنارد لويس المعروف بآرائه المتجنية على الحضارة الإسلامية. فالواضح أن لويس في هذا الكتاب أعاد النظر في آرائه المتشددة والسلبية تجاه الإسلام والمسلمين، فهو هنا يعيب على الغربيين جهلهم بالتاريخ والسنن الحضارية، ويذكّرهم بأخطائهم وخطاياهم في حق العرب والمسلمين. (أين الخطأ؟) هو العنوان الذي اعتمده لويس للتعبير عن تساؤل مقلق دأب المسلمون على طرحه منذ مدة طويلة عندما أدركوا تفوق الغرب عليهم: (هو سؤال يشي بالمرارة والقلق وإحساس متزايد وعميق بالغضب). والأسباب التي تدعو المسلمين إلى هذا التساؤل واضحة تماما كما يشير المؤلف، فالإسلام ساد العالم قرونا طويلة وارتبطت باسمه المنجزات الإنسانية الأولى، ولم يكن خارج حدود دول المسلمين إلا أهل الهمجية والتخلف الذين يسعون إلى الانضواء تحت رايته كي يجنوا ثمار الحضارة (التي فرضت العدل والمساواة، وحررت الناس من الإقطاع الفارسي والطائفية الهندية والأرستقراطية الغربية، ونبذت التفرقة على أساس الجنس أو اللون أو الثراء أو المكانة الاجتماعية). ويتعجب لويس من التفوق الحضاري الإسلامي الذي اتخذ مسارا تصاعديا في بسط النفوذ والسيطرة، إذ استطاع المسلمون فتح مدينة القسطنطينية عام 1453 عاصمة الإمبراطورية البيزنطية، ثم تواصل زحفهم حتى كادوا يدخلون فيينا عاصمة النمسا عام 1683 متوجين بذلك مسيرة ألف سنة من الفتوحات والانتصارات بدأت في الشام والعراق في القرن السابع الميلادي وتواصلت في آسيا وإفريقيا وأوروبا. ويشير لويس إلى زمن انحسار المد الإسلامي الذي بدأ مع هزيمة الأتراك في فيينا عام 1683: (وتلك بداية التحول والانكسار) كما يسميها لويس الذي يعدد النكسات المتتالية التي أثرت في هيبة المسلمين وقوتهم العالمية منذ هزيمتهم في مالطة عام 1684 ثم المواجهة مع روسيا عام 1696 عندما استولى القيصر الروسي بطرس الأكبر على مدينة أزوف على البحر الأسود. وفي تحليله لأسباب الصدمة الحضارية ونتائجها التي هزت الشرق الإسلامي، أوضح لويس أن المسلمين كانوا يحتقرون الغرب ولا يأبهون بالجهود الحثيثة التي يبذلها للنهضة والتقدم، وعندما أفاقوا على صدمة التفوق التقني في بداية القرن الثامن عشر؛ كان الغرب قد سبقهم ب400 سنة في التقدم العلمي، وبدأ التأثير الغربي يغزو الشرق من مدخل التقنية. وعرف الشرق الساعة الميكانيكية التي يصنعها الغرب لقياس الزمن بدقة تتفوق على الوسائل التي كانت تستخدم في الشرق، ثم المطبعة والنظارات الطبية والتلسكوب والآلات الموسيقية ذات المفاتيح مثل البيانو. وكانت هذه المنجزات التي أبهرت سكان العالم الشرقي، سببا مباشرا في الانقياد والتبعية: (فانتشرت في الشرق الموسيقى والفنون الغربية، وشاع اللباس الغربي وأنظمة العمارة في البيوت والقصور والمباني العامة، حتى أضحت المساجد نفسها تبنى على الطراز المعماري الغربي). وحين وصلت الأممالشرقية إلى هذه المرحلة من الذوبان في الآخر، والانسلاخ التام عن الهوية والثقافة الأصيلة، بدأت الترجمة تشهد مسارا مختلفا عما عهدته طوال القرون الماضية: (فبعد أن كان الغرب ينهل من الثقافات الشرقية ويترجم عنها العلوم والفلسفة والآداب إلى اللاتينية وغيرها، أصبحت هذه الثقافات تستورد الروايات والمسرحيات لتترجمها إلى لغاتها، كما انحسرت اللغة الفارسية والتركية من الوسط العربي، في الوقت الذي انحسرت أيضا العربية من الأوساط الإيرانية والتركية، وحلت مكانها اللغات الأوروبية التي نقلت أجناسا أدبية جديدة مثل الرواية والقصة القصيرة والمسرحية). ويتتبع لويس هذا الامتداد الذي طال الأدب حتى أصبحت هذه الأجناس هي الأصل في التعبير: (فزادت أعداد الكتب الأصيلة من هذه الأنواع حتى تغلغل تأثيرها إلى النسيج اللغوي نفسه، وغدت الكتابات العربية الحديثة - ولا سيما في الصحف - تبدو كأنها ترجمة حرفية من الإنجليزية والفرنسية!). ويرى لويس أن الشعوب حين تغير عاداتها وملابسها، فهي تستسلم طواعية للمعسكر الغازي وتنقاد إلى هويته دون وعي: (مع أن هذا الانجذاب اقتصر على فئة دون أخرى في بداية الأمر، وكان محل خلاف عريض بين مختلف التيارات والشرائح، لكنه أصبح واضحا للعيان على مستوى الملابس الفردية والزي العسكري). وفي تحليله الخاص لمنشأ الخطأ على حد تعبير عنوانه، يتبنى لويس نظرية الكبت والتقييد التي أعاقت التقدم: (فمتاعب العالم الإسلامي مردها إلى غياب الحرية: حرية التفكير وحرية الاختيار، وحرية الاقتصاد). ويبدو أن لويس الذي اقترب من عامه ال100 متشائم جدا في نظرته المستقبلية لمنطقة الشرق الأوسط: (إن منطقة الشرق الأوسط في طريقها إلى تفجير نفسها وتفجير العالم كله معها أيضا، فربما تعود أوروبا إلى السياسات القديمة، وربما تستعيد روسيا نهضتها وتجتاح المنطقة، أو تنهض دولة عظمى جديدة تملأ الفراغ). ومع هذه الرؤية التشاؤمية، يفتح لويس نافذة ضيقة من الأمل: (فإذا استطاعت شعوب الشرق الأوسط أن تنسى إحساسها بالظلم وتسوّي خلافاتها وتعمل على تكاتف طاقاتها ومواهبها ومواردها لتحقيق أهداف نهضوية مشتركة، فهي قادرة من جديد على أن تعيد الشرق الأوسط إلى ما كان عليه في الأزمان الغابرة من تفوق وازدهار ليصبح مركزا رئيسيا للحضارة، وهذا خيار قائم بيد الشعوب نفسها).