يحكى أنّ قلمين كانا صديقين، ولأنّهما لم يُبريا كان لهما نفس الطّول؛ إلا أنّ أحدهما ملّ حياة الصّمت والسّلبيّة ، فتقدّم إلى المبراة، وطلب أن تبريه.. أمّا القلم الآخر فأحجم خوفا من الألم وحفاظا على مظهره. غاب الأوّل عن صديقه مدّة من الزّمن، عاد بعدها قصيرا؛ ولكنّه أصبح حكيما. رآه صديقه الصّامت الطّويل فلم يعرفه، ولم يستطع أن يتحدّث إليه فبادره صديقه المبريّ بالتّعريف عن نفسه.. تعجّب الطّويل وبدت عليه علامات السّخرية من قصر صديقه.. لم يأبه القلم القصير بالسخرية، ومضى يحدّثه عما تعلّم فترة غيابه وهو يكتب ويخطّ كثيرا من الكلمات، ويتعلّم كثيرا من الحكم والمعارف والفنون. انهمرت دموع النّدم من عيني صديقه الطّويل، وما كان منه إلا أن تقدّم من المبراة ليكسر حاجز صمته وسلبيّته بعد أن علم أن من أراد أن يتعلّم لا بدّ أن يتألم. كان ذلك الصباح جميلا مميزا، ففصل الشتاء كان يدق أبواب مدينتنا، بسماته الطبيعية الربانية الرائعة، ومذاقه النفسي الخاص؛ ما جعلني أقرر أن يكون يومي مختلفا، فبدلا من الذهاب إلى العمل، قادتني قدماي إلى الطريق الموصل إلى شاطئ البحر. كانت النسمات الباردة تلفح وجهي وتنعشني، وتثير في نفسي مشاعر جميلة. السماء كانت ملبدة بالغيوم، ورائحة المطر تعبق في الأجواء وتنذر بهطوله.. وبالفعل بدأ بالهطول، فتناولت الجريدة الصباحية من أقرب كشك لبيع الصحف، وأخذت مكاني على إحدى طاولات المقهى المقابل للشاطئ، وطلبت قهوتي التركية، وأخذت أرقب الناس وهم يتدحرجون مسرعين على أرصفة الشوارع التي بدأ المطر يغسلها.. وصلت قهوتي، وبدأت أرشفها بتلذذ وتمهل، وبدأت بقراءة الخطوط العريضة والأعمدة في الجريدة، وكنت أتفقد الجرائد ولا أجد وقتا لقراءتها بسبب انشغالي. عشر دقائق قضيتها مع الجريدة ثم ألقيتها جانبا وتأففت، وسألت نفسي هل أضحت الكتابة موضة العصر؟ فالكل يكتب، بغض النظر عن محتوى ما يكتب.. قد تجد كتابات رمزية غير مفهومة وملتفة بالغموض لا يفهمها إلا كاتبها، وأخرى كلماتها ثقيلة متكلفة صعبة الفهم وكتابات ساخرة ليس لها هدف، وكتابات تثير النوازع النفسية وأخرى تتمرد على المجتمع. فأين الجمال في العرض والطرح؟ أين الفكرة الحسنة؟ أين الرأي السديد؟ أين جودة اللغة وروعتها؟ أين سلامة اللفظ والذوق؟ أين أمانة الكاتب والكتابة؟ فور أن توقفت الأمطار، ارتديت معطفي، أحكمت إغلاقه حولي خشية البرد، غادرت المقهى، وتركت جريدتي، فلا حاجة لي بها.