أقيم في القاهرة بحكم عملي منذ خمس سنوات، ألفت القاهرة، النكتة الحاضرة، وسرعة البديهة، والطيبة. لا تشعر بالغربة في قاهرة المعز، مدينة كونية تضم كل الأطياف السياسية والاقتصادية والاجتماعية، حاضرة بقوة في قلب الأحداث العربية والإقليمية والعالمية، لها تاريخها، ورموزها، وعقلانية صبرها، وحراكها المستمر، وحوارها الدائم، وانتصاراتها. في شوارعها لا تغيب البهجة عن وجه عامل بسيط يتصارع مع الحياة من أجل قوت يومه، وفقا للمثل المصري (احييني اليوم وموتني بكرة). المصري بطبيعته عطوف جدا، يثور بسرعة، ويهدأ بشكل أسرع، لا يحمل الضغينة ولا الحقد، إن أراد أن يمارس (الفهلوة) فهو يمارسها في أضيق الحدود (اخطف واجري). القاهرة مدينة لا تنام لشتى دروب الحياة، أنت تحدد شكل وطبيعة ممارساتك الحياتية ضمن سياق واضح للمسموح والممنوع. عندما تقيم فيها في السنة الأولى تندم على قرارك، في السنة الثانية تكتشف قاهرة أخرى لم تعرفها من قبل، في السنة الثالثة تعشقها ليزداد إصرارك على البقاء فيها رافضا كل إغراء عملي لمغادرتها. ليلة الثامن عشر من نوفمبر بعد مباراة مصر والجزائر، التي حولت الأخوة إلى خصام ضار، استخدم الإعلام من الدولتين المباح وغير المباح لتهييج الشارع الجزائري والمصري، في تلك الليلة اكتسى على محيا القاهرة حزن لم أره من قبل، وحتى من يقيم فيها لأكثر من ثلاثة عقود لم يره من قبل. الوجوه واجمة وكأن على رؤوسهم الطير، بكاء أطفال ونساء ورجال أشداء، غاب ثغر القاهرة الباسم، وكأنها خسرت حربا، واحتلت أرضها. ما الذي يجعل مباراة كرة قدم، الفائز فيها في أحسن الأحوال سيخرج من الدور السادس عشر من كأس العالم، ما الذي يجعل صحافيا إسرائيليا يطوف شوارع القاهرة حاملا العلم الجزائري يحرض الجزائريين على المصريين؟ ما الذي يجعل الإعلام العالمي يتابع بالتفاصيل معركة العرب الكروية بهذا الحجم؟ هل ليؤكد أن الأخوة العربية شعار هش، مباراة كرة قدم قادرة على إسقاطه، وأنه أوهن من بيت العنكبوت؟ هل ليؤكد أنه إذا كانت تلك هي الأخوة العربية، فالعرب ليسوا بحاجة لأعداء؟ ما الذي يجعل الإعلام العالمي يصم المباراة بمعركة الكراهية؟ فرنسا تأهلت بلمسة يد من هنري على حساب أيرلندا، ولم يحدث ما حدث لدينا. أسهمت مصر في تحرير واستقلال الجزائر 1962، وذهب هواري بومدين إلى موسكو ليدفع نقدا ثمن الأسلحة لمصر أثناء حرب أكتوبر 1973، لماذا تناسى الشعبان كل ذلك ورهنوا مصيرهما بكرة تركل بالأقدام؟ لن تبنى بها مدرسة أو مستشفى، ولن تخفض نسب الفقر والأمية والبطالة، ولن تمنع أبناءنا من الموت في سفن الهجرة السرية، ولن تحقق لنا تنمية مستدامة. ما يجمعنا كعرب على أرضية الواقع أكثر مما يفرقنا، لكن ما إن نتجاوز شرخا في العلاقات العربية - العربية حتى يأتينا شرخ آخر أشد ضراوة وأكثر كيدا يصيبنا في مقتل. ألا نملك وعيا ندرك من خلاله أن هناك أطرافا إقليمية وعالمية تتربص بنا وتقتات على خلافاتنا؟ جوبلز أسهم في إسقاط هتلر، فلا نريد إعلاما عربيا يسقطنا في وحل صناعة الأزمات.