على الرغم من أن الانتخابات في الهيئات والمؤسسات العامة، تعبّر عن عمل حضاري يفترض أن يكون قائما على أساس من العدل والمساواة وتكافؤ الفرص، إلا أن العملية الانتخابية بشكل عام، قد تشوبها في بعض الأحيان شوائب تقلّص كثيرا من عدالتها وتغيّر معاييرها الحضارية إلى معايير قائمة على القدرة المالية أو النفوذ المُشترى، وعلى رأس هذه الشوائب عملية (شراء الأصوات). وهذه العملية الاحتيالية على النظام الانتخابي، قديمة قدم فكرة الانتخاب، ومرّت بها أعظم الديمقراطيات في العالم في أطوارها الأولى، لكنها كانت على الدوام عملية لا أخلاقية، تخلع على ممارسها لقب المحتال، وتعبّر عن عدم احترامه جمهور الناخبين، وعدم احترامه النظام المؤسسي الذي يمارس أنشطته من خلاله. وفي الانتخابات الأخيرة للغرفة التجارية بجدة، بدا واضحا ل»شمس» من خلال اتصالات ولقاءات مع ناخبين صوَّتوا فيها، أن شراء الأصوات، كان قائما في العملية الأخيرة مع فارق مهم تميزت به انتخابات جدة عن سواها من الانتخابات في التاريخ. فقدماء المحتالين، كانوا يحرصون على السريّة بقدر حرصهم على جمع الأصوات، لكن في جدة، كان الشراء “على عينك يا تاجر»، إلى الحد الذي تجمهر فيه ناخبون أمام مكتب أحد الفائزين عن فئة التجار، ليس ليطالبوه بوعوده الانتخابية وبتنفيذ برنامجه الموعود، بل ليطالبوه بالمبالغ التي وعد بتقديمها لهم في حال صوتوا له، لكن اتضح لهم أن ذلك المرشح الفائز، لم يحتل على النظام الانتخابي فحسب، بل احتال أيضا على الأدوات التي استخدمها في إتمام خطته، أي الناخبين. وهذا التحقيق، ينقل ما أدلى به ناخبون عن تصويتهم لصالح المرشح المذكور (الذي تحتفظ الصحيفة باسمه) بمقابل مادي. وفضّل هؤلاء الإشارة إليهم بأحرفهم الأولى، مع العلم أن “شمس» تحتفظ بتسجيلات صوتية لما نقله الناخبون. تجمّع فاضح لم يكن الوصول صعبا إلى الناخبين الذين فرطوا في حقهم الانتخابي مقابل مبالغ ضئيلة نسبيا، في انتخابات جدة الأخيرة، بل كانوا بارزين وواضحين للجميع، من خلال تجمّعهم خلال اليومين الماضيين أمام مكتب أحد المرشحين الفائزين عن فئة التجار. وعلى الرغم من أن أولئك الناخبين يتقاسمون الخطأ غير الأخلاقي مع المرشح؛ كون بيع الأصوات عملية لا تقل سوءا عن شرائها، إلا أنهم يرون الآن أنهم خُدعوا من جهتين، فمن ناحية فرَّطوا في أصواتهم المهمة لصالح مرشح لن يكون نافعا لهم ما دام يتخذ هذه الأساليب، ومن ناحية أخرى اكتشفوا أن الأموال التي باعوا أصواتهم من أجلها، ليست سوى وعود كلامية، على الرغم من ضآلتها البالغة. أمانة المحتال وفي موقع التجمع، حيث تواجدت “شمس” إلى جانب الناخبين المخدوعين، تحدث عدد منهم حول ما جرى ويجري، وكان واضحا أن معظم الناخبين هناك يسيطر عليهم الغضب والشعور بالإهانة، إلى الحد الذي جعلهم يكشفون عن أنفسهم ويعترفون بأنهم صوّتوا لصالح المرشح فقط من أجل المبلغ الموعود. وقال (ف.ح) راويا ما حدث: “توجهت ومعي عدد من الأصدقاء إلى موقع التصويت وقابلنا القائمين على حملة المرشح وطالبونا بالتصويت لمرشحهم مقابل 1500 ريال، على أن يتم تصوير الترشيح بكاميرا الجوال، وقبضَ الثمن من كان بجواله كاميرا تصوير، أما البقية فلم يتسلموا المبلغ المتفق عليه”. ويرى (ف.ح)، أن على المرشح المذكور أن يكون أمينا فيعطي من صوَّتوا له مبالغهم المستحقة، حتى وإن لم يصوروا عملية إدلائهم بأصواتهم لصالحه. وعلى الرغم من أن مطالبة المحتال بأن يكون أمينا، مطلب غير معقول، إلا أن (ف.ح) مُصرّ كما يبدو على انتزاع ما يسميه ب”حقّه” من المرشح الذي سلب حقوق الآخرين بمساعدة (ف.ح) وأمثاله من المفرطين بأصواتهم والمشاركين في الاحتيال، ربما من دون إدراك منهم. صفقة مغرية ومن جانبه يقول (ه.ع): “الوضع بالنسبة إلي كان مغريا، حيث إنني لم أجدد اشتراكي بالغرفة وتفضل أعضاء لجنة المرشح بتجديد الاشتراك بمبلغ 800 ريال، وتنازلت عن الباقي، ولم أكن أعلم عن مشروعية هذا الإجراء فصوَّت حسب طلبهم والتقطت صورة لاستمارة الترشيح بكاميرا جوالي؛ لأثبت لهم صحة الإجراء، وما أحزنني أن هناك عددا من الأصدقاء لم يوفِ معهم مرشحنا الذي حقق الفوز بفضل أصواتنا”. ويتضح من حديث هذا الناخب، أن لجنة الانتخابات في الغرفة لم تقف على مستوى يوازي مستوى الاحتيال الذي جرى في الانتخابات، فهي لم تشرح للناخبين مدى أهمية الصوت الانتخابي وضرورة تخلصه من أي ضغوط من قبل المرشحين أو مديري حملاتهم. استهداف النساء ولم تتوقف إغراءات المرشح المذكور، على الذكور من جنسه فقط، بل زاحم السيدات المرشحات من خلال إغراء الناخبات اللواتي يشكلن في العادة تكتلا لضمان وصول السيدات في انتخابات الغرفة. لكن قوة المال تغلبت على عصبية الجنس، وهذا ما تؤكده (م.ح)، التي أوضحت أنها إحدى المنتسبات إلى غرفة جدة، وأنها توجهت إلى انتخابات الغرفة في اليوم الأول والمخصص للنساء، وقد قررت دعم إحدى المرشحات، لكن ما حدث في صالة الانتخاب كان مغايرا لخططها، تقول: “عند دخولي المخيم واجهتني عدد من الفتيات وعرضن عليّ مبلغا من المال مقابل التصويت لهذا المرشح، ووافقت على ذلك وصوتّ له بالفعل وقبضت في الحال ألف ريال”. احتيال مضاد أما (س.ح) فهو يعترف بأنه احتال على المرشح قبل أن يحتال عليه؛ إذ يقول: “قبضت الثمن من مرشحي وأنا لا أملك سجلا تجاريا ولا اشتراكا بغرفة جدة، وكل ما في الأمر أنه بعد اطلاعي على خطوات الترشيح جلبت صورة سجل لأحد أصدقائي ليس له اشتراك بغرفة جدة وسجلت اسمي ودخلت صالة الانتخاب، وهناك من الطبيعي أن يتم استبعادي، وخرجت من صالة الانتخابات وكان بجوالي صورة تأشيرة انتخاب لاستمارة سابقة للمرشح قدمتها للقائمين على الحملة، وبعد أن اطلعوا على الصورة تسلمت المبلغ المتفق عليه، والحقيقة أنني لم أكن أملك حق التصويت أصلا”. نزاهة المحتال ومن جانبه، يطرح (ب.ع) تساؤلا يشير إلى ضعف الوعي الانتخابي لدى المرشحين، فهو يقول: إنه “لم يفقد ثقته بهذا المرشح إلا عندما تملّص من وعوده بالمبالغ التي منحها لهم مقابل الأصوات”، ويقول (ب.ع) وكأنه يتحدث عن ممارسة مشروعة: “إذا كانت هذه الخطوة الأولى لمرشحنا فكيف سنثق بوعوده وحرصه على مصالح التجار في جدة؟”، ويبدو (ب.ع) واثقا من مصداقية المرشح المذكور، والمأخذ على شرفه ونزاهته بحسب (ب.ع) هو عدم إيفائه للمرشحين الذين اشترى أصواتهم، ولم يقل أحد ل(ب.ع) أن ليس بعد الكفر ذنب، وأنه لا ينتظر من مشتري أصوات أن يكون صادقا أو أمينا أو نزيها. إغراء عكسي لكن (ب.ع) يفجّر مفاجأة من نوع آخر، فهو يؤكد أن أحد رجال الأعمال المرشحين الخاسرين في الانتخابات عرض عليه “مبلغا كبيرا” مقابل كشف الاتفاق المالي الذي تم بينه وبين المرشح الفائز المحتال الذي صوّت لأجله. ويقول (ب.ع): “إنه وعندها فقط عرف أن بيع صوته مخالفة قانونية، قد يرغب كثيرون في إثباتها؛ إضرارا بالفائز الذي سرق فرصتهم في التنافس”. كوبونات مطبوعة وعَوْدا على بدء، فإن وجه الاختلاف بين شراء الأصوات في انتخابات جدة الأخيرة، وشرائها في التجارب العالمية الأخرى، يبرز في العلنية الفاضحة والدالة على عدم الاكتراث واللامبالاة في تطبيق القانون الانتخابي، حيث أشار عدد من أصحاب المحال التجارية في شمال جدة، إلى أن مندوبين عن حملات المرشح المعنيّ ومرشحين آخرين، زاروهم قبل موعد الانتخابات وسلموهم (كوبونات) وكروتا مطبوعة، يؤكد كل منها حصول الناخب على مبلغ 1500 ريال في حال صوّت لهذا المرشح. وقال عدد من هؤلاء الباعة: “إنهم بالفعل ذهبوا إلى صالة الانتخاب في الموعد وصوّتوا للمرشح وقبضوا ال1500، وعاد الجميع سعداء، لكن بلا أي قيمة لرأيهم في إدارة غرفة جدة”.