ضوضاء المدينة التي انتقل إليها جلبت معها الفقر والبؤس، فكان الانتقال بمثابة نقلة عميقة في بئر المدينة وزحامها وإيقاعها السريع الذي فقد معه مهارة العيش في الحياة بكل بساطتها وهدوئها الذي عاشه في القرية في أحضان الطبيعة الأم. خليف بن مسفر البلوي، مواطن تجاوز العقد الثامن من عمره، ولم يعرف المدينة وضوضاءها إلا منذ ما يقارب سبع سنوات، بعد أن كان يعيش منزويا في قرية عين الحواس (30 كيلومترا شمال القريات)، أجبرته الظروف المعيشية السيئة وكبر سنه على الانتقال إلى محافظة القريات؛ هربا من الفقر والفاقة والعوز، حاملا معه 15 نفسا، هم أفراد أسرته في منزل خال من كل شيء، لكنه عامر بالفقر والحرمان والبؤس والشقاء، وهو الحال الذي ضرب أطنابه حول المكان منذ سنوات، موقظا مضاجعهم، فاتحا جروحا وهموما من الصعب تجاوزها. أب وأم و14 ابنا (تسعة أولاد وخمس بنات) لا يملكون من الدنيا وحطامها إلا 1700 ريال هي راتب التقاعد لذلك الكهل الثمانيني، الذي مضى عليه 12 شهرا لم يستلم منه ريالا واحدا بعد أن أخذه أحد الدائنين الذي يطالبه بمبلغ يزيد على 50 ألف ريال. (أبوزعل) نظر إلينا نظرة حزن عميقة أفرزت دمعة حارقة حاول تجاهلها، لكنه تعثر أمامها ليمسحها بطرف ثوبه موجها نظراته إلى أبنائه الصغار، قاطعا على “شمس” الكلام معه بعد أن عجز أن يبوح بما داخله وتكلمت نيابة عنه عيناه ودموعه، التي كشفت عظم المأساة التي تعيشها تلك الأسرة في بيت أكل عليه الزمن وشرب بحي الفيصيلية بمحافظة القريات، بإيجار شهري قدره 400 ريال، ولم يكن ذلك البيت إلا جدرانا متصدعة، وغرفا متهالكة من دون أبواب، خلت من الأثاث الوثير واقتنعوا بقطعة سجاد تالف؛ للجلوس عليها، في منزل خلا معظمه من الفراش وتناثرت فيه ملابس بالية وقديمة لم تجد مكانا لها في منزل أبوزعل سوى الأرض بعد أن خلا ذلك المنزل من الدواليب والفرش وأدوات الراحة والترفيه. كان المكان صامتا خاليا من الضجيج، على الرغم من كبر عدد الأسرة، التي بالكاد تجد طعامها، بعد أن كافح الأب طول حياته بشرف ليكسب قوت عياله.. لم يكن يبحث يوما عن رغد العيش فهو لا يعرفه.. ولا عن الرخاء والترف؛ لأنه لم يجربه، وكان حلمه الأكبر مجرد الحصول على فرصة عمل كريمة آمنة لأحد أبنائه توفر لهم الحد الأدنى من حاجات أسرته الضرورية من مأكل وملبس ومسكن وعلاج. لم يستطع أبوزعل الانتصار على الفقر الذي ظل يطارده، ولا يزال حتى هذه اللحظة.. على الرغم من أنه ظل يكافح طوال حياته للانعتاق منه والهرب عنه، لكن لا يمكن له ولا لأمثاله الخلاص من الفقر، فيما لا يزال يحدوه الأمل ليجد من يقدم له المساعدات البسيطة التي تكفل له العيش بسلام وأمان في حياة كريمة تنهي معاناته مع الفقر ومع ديونه المتراكمة.