شارع الخاسكية بجدة .. لا شيء يجذبك هناك سوى رائحة الشواء، فدخان الكبدة يعج في المكان، وعلى أطراف الطريق غلمانٌ يصطادون الزبائن بالزي الحجازي، ولا مفر إلا بتذوق طائر لصحن كبدة. معدو تلك الوجبة يتنافسون على تقديمها ساخنة بالتوابل التي تحمل الخلطة السرية، فلكل طباخ طريقته وسر تتبيلته وفي خضم الزحام قابلنا شبابا يحملون تطلعات المستقبل ورغبة في العمل، رحبوا بنا ودعونا إلى تناول إحدى أشهر الأكلات الشعبية في شهر رمضان المبارك، فهم يقدمون الكبدة الجملي، والضأن، والتقاطيع، والشوربة، والقلوب، وعادة ما تلاقي هذه البسطات الشعبية إقبالا كبيرا من الناس كونها تتكرر مرة واحدة في السنة فقط، بالإضافة إلى أنها تجعل الناس يعيشون الأجواء الرمضانية المميزة. الرحلة الأولى رست بنا في بسطة إسماعيل أبو زيد، الموظف بالخطوط السعودية، والذي يقدم الكبدة منذ أكثر من 15 عاما، وهو السعودي الوحيد بينهم، فجميع من يعدها على الصاج غير سعوديين لذلك ينافس وبقوة أنه الأفضل من بين الموجودين. يقول أبو زيد: “أعمل مع أبناء عمومتي هنا، فهم أهل البلد والقادرون على تقديم وجبة مميزة تنال ثقة الزوار”، ويضيف: “لدي زبائن مضى على تعاملهم معي أكثر من عشرة سنوات، وأجد رمضان وبسطة الكبدة فرصة كي التقي بهم فهناك وجوه ألفت المكان”. وعن مصدر الكبدة التي يقدمها، يقول: “اتحدى أن يكون بين كل هذه البسطات من يقدم كبدة طازجة حتى أنا، بل نتعامل مع محال بيع اللحوم التي تبيعها لنا مبردة”، وعن سر الخلطة يقول: “لا يوجد سر في التوابل، فالمقادير لا تتجاوز الفلفل والكمون والملح، بالإضافة إلى الثوم المطحون، لكن نَفس الطباخ هو المتحكم الرئيس في لذة الطعم، لذلك أنا سعودي ابن بلد وأعرف ماذا يحبذ السعوديون وما تستلطفه ذائقتهم”. وبالنسبة لغلاء أسعار الماشية وتأثيرها في طبق الكبدة، يقول أبو زيد: “نحن نواجه غلاء من أطرافٍ شتى، فالأمانة رفعت سعر البسطة من 200 إلى 1500 ريال، وأصحاب محال الجزارة رفعوا السعر لما يقارب ال20 ريالا ما حداني لرفع سعر الوجبة إلى 12 ريالا، لكن الحمد لله زبائني كما هم لم يتغيروا”، وعن الدخل الشهري يضيف: “صافي دخلي في شهر رمضان يفوق ال50 ألف ريال”. وعلى إحدى الطاولات التقت “شمس” صالح الزهراني، أحد رواد كبدة أبو زيد الذي تحدث قائلا:” غيرت وجهة صديقي من المضغوط للكبدة التي أحرص على تناولها بشكلٍ يومي في هذا المكان دون غيره، لأني وبكل صدق وجدت تميزا عن الباقين، فأبو زيد يقدم كبدة بيد سعودية خلاف البسطات الأخرى التي تدير صاجها عمالة آسيوية”. عدنا بعد ذلك لإسماعيل وسألناه عن أنواع الكبدة التي يقدمها، فقال إنه يركز على الكبدة الغنمي التي يطلبها الزبائن لطراوتها، أما كبدة الحاشي (حاشي عالماشي) فقد ارتبطت لفترة من الزمن بالشخصية الكوميدية (مناحي) وجعلت الناس يطلبونها، لكن نركز هنا على كبدة الغنم أما الحاشي فنقدمها بناء على سن الحاشي، فكلما صغر سنه كان مذاق الكبدة ألذ. والجديد هذا العام أقسام العائلات التي أكسبها القائمون على تلك الكشكات خصوصية بحتة، يقول عنها أبو زيد : “العام الماضي حضر إلينا بعض الزبائن من الجنس الناعم وطالبن بإيجاد أقسام خاصة للعائلات فلبينا رغباتهن، وقد بدأن في التوافد عليها منذ الليالي الأولى للشهر الكريم، حيث إن الكبدة الساخنة لها نكهتها المميزة بخلاف لو أخذها الزبون في قالب (سفري). وعن أغرب المواقف التي مر بها أبو زيد يقول: “حضرت إليّ زبونة بعد أن تناولت صحن الكبدة وطلبت أن تعرف الخلطة المستخدمة في إعداد صحن الكبدة، فأخبرتها بأنها مواد بسيطة لكنها أصرت على أن هناك خلطة سرية، فطلبت منها أن تقف بجواري وتتأكد من ذلك بنفسها فأحضرت ورقة وقلما وسجلت طريقة إعدادي للكبدة بالتفصيل الممل”. وفي الناحية الأخرى للخاسكية تقع بسطة العم عبد العليم الذي تحدث ل“شمس” قائلا: “بيع الكبدة يحتاج إلى الكثير من الخبرة والمهارة، فالعائلات تستطيع تمييز الطعم والنكهة والرائحة، لذلك نحرص في البسطة على تقديم الكبدة الطازجة التي نجلبها من المسلخ بشكل يومي، وهي كبدة أغنام وإبل، أما اللحم فيؤخذ من الجزارين ويكون طازجا”. ويضيف: “الزبائن يستهلكون يوميا في رمضان ما يفوق ال 80 قطعة من الكبدة، إلى جانب ما يعرف بالسقط والتقاطيع، وتجد العائلات الراحة في الأقسام المخصصة لها، وتستمتع بتناول الكبدة الطازجة في أجواء مريحة وأسعار معقولة، فالصحن الواحد للكبدة لا يتجاوز سعره عشرة ريالات”. ويقوم عبد العليم بتجميع البهارات الخاصة التي يستخدمها لتقديم طبق الكبدة بنكهة ورائحة وطعم مميز، فيطحنها ويجهزها كما يقول قبل دخول شهر رمضان، ويؤكد أن له زبائن يترددون على بسطته منذ فترة طويلة، ومن جميع أنحاء المملكة، فهناك كما يقول من يأتيه من الرياض والطائف ومكة.