لم يكن الخطأ الطبي مجرد مصطلح بات متعارفا عليه في المجتمع، بل غدا أحد مسببات المعاناة لكثير من المواطنين. بالأمس أعلنها وزير الصحة: «الهدف من التأمين الصحي هو تجويد الخدمة الصحية المقدمة للمواطن بمستويات عالية»، وذلك قبل أن يؤكد على البعد المادي في الأمر، بالإشارة إلى عدم تحميل المواطن أي أعباء مادية من جراء تطبيق التأمين الصحي التعاوني. وزير الصحة أشار قبلها إلى أن تطبيق أي شكل من أشكال التأمين الصحي التعاوني يجب أن يدرس بشكل مستفيض قبل تطبيقه على المواطنين، لافتا إلى أن هناك دراسات لضمان توفير الخدمة ومراقبة الجودة والأداء في التأمين الصحي، مشيرا إلى أن مخاطر التأمين التجاري وخصخصة القطاع الصحي تؤدي إلى ارتفاع تكاليف الخدمات الصحية، مبينا أهمية ضبط أوجه الصرف والإنفاق وتحسين الخدمات. والصحيح أن الوزير أكد على عمق الشراكة مع القطاع الخاص: «الوزارة حريصة على الشراكة مع القطاع الخاص ومهتمة بالرعاية الصحية الأولية». وإذا كانت وزارة الصحة اعترفت في مايو الماضي على لسان وكيل وزارة الصحة للتخطيط والتطوير الدكتور محمد خشيم، في تصريحات صحفية، بأن: «مجموع القرارات الخاصة بإدانة أخطاء طبية وصل إلى 670 حالة في 2009، فيما بلغ عدد القرارات الصادرة بها إدانة للحق الخاص 51، وبالحق العام 130، من خلال 18 هيئة صحية شرعية». وإذا كانت تحقيقات وزارة الصحة كشفت عن وفاة 129 شخصا نتيجة الأخطاء الطبية خلال عام واحد، فإن إحصاءات إعلامية غير رسمية تشير إلى أن واحدة من أكثر من 2500 حالة وفاة سنويا يشك في حصولها نتيجة خطأ طبي في السعودية. أما على الجانب الرسمي، فإن وزارة الصحة في تقريرها السنوي أوضحت أن الحالات المعروضة على مراكز الطب الشرعي في 2009 بلغت 2502 حالة، وتشريح 555 جثة، والحالات المعروضة على الهيئات الصحية بلغت 1356 حالة، وصدر فيها 650 قرارا من الهيئات الصحية، لافتة إلى أن عدد الجلسات بلغ 1598 جلسة، واحتلت جدة المقدمة ب287 حالة معروضة، وصدر فيها 108 قرارات من الهيئة الصحية في جدة، تلتها الرياض ب280 حالة معروضة، وصدر فيها 130 قرارا من الهيئة الصحية في الرياض. .. وتستمر المعاناة لم تكن طفلة الأعوام الثلاثة وجدان المطيري، الضحية الأولى ولا الأخيرة للأخطاء الطبية في مستشفى حكومي، بعدما تأثرت بجرعة زائدة من المخدر في المدينةالمنورة، كما لم يكن خطأ التخدير الذي أدى إلى وفاة استشاري طب الأسنان في المستشفى التخصصي بجدة الدكتور طارق الجهني، هو المحرك الأول لفتح باب الأخطاء الطبية والذي ظل مشرعا، والعقوبات سارية، فيما الخطر المرتقب، ربما يكون مزيدا من الضحايا في حال العمل بموجب نظام التأمين على الأطباء ضد الأخطاء الطبية. في عام 2008 م، ازداد عدد الأطباء الذين اشتروا بوليصة تأمين ضد الأخطاء المهنية الطبية، بصورة كبيرة في العام الجاري 2008م، حسبما أعلنت أكبر شركة تأمين في السعودية، والتي ذكرت أن التأمين على الأخطاء الطبية ارتفع بنسبة بلغت 116 % للأربعة أشهر الأولى من العام الجاري 2008 مقارنة مع الفترة نفسها من 2007. وعزت سبب الزيادة إلى إلزام نظام مزاولة المهن الصحية للأطباء بالحصول على وثيقة تأمين تعاوني ضد أخطاء المهن الطبية قبل السماح لهم بمزاولة المهنة. خطأ جديد سعود العجمي، ابن ال20 عاما، لم يحلم إلا بالوصول إلى بوابة المستقبل، من نافذة الغد المشرق. عاش أيامه لا يعرف إلا الحياة، يريدها هكذا بلا منغصات، لكنها تأبى إلا أن تغتال نضارته. خاض معركة التحدي مع العلم، فراح يسترسل في حلم الإعلامي من أي نافذة، يمني نفسه بأن يكون ذات يوم ربما صحفيا أو مذيعا أو مخرجا، لكنه يرى أن العمل الإعلامي هو المنشط له، والمبتغى. وفي يوم ما شعر بالصداع يجتاح رأسه، ويقلب أفكاره رأسا على عقب، ليجد نفسه مستسلما للبقاء قيد فكرة مراجعة الطبيب، فلا أمل في التخلص من العارض الزائر، إلا بحقنة من الاختصاصي. ولأنه لا يعرف بابا بعينه، أو ربما قلل من أمر الصداع الذي ألم به، اعتبر الأقرب هو الأولى: «سارعت إلى المستشفى الحكومي الذي أعرفه، عرضت عليهم حالتي، وتوكأت على حلم الحقنة التي أخرج بعدها معافى، لكنها كانت بداية المعاناة». لم يشعر سعود بعدها إلا بالدوار الذي يشابه في المضمون من يركب البحر للمرة الأولى، لكنه يختلف في القوة والتأثير: «كاد يغمى علي وأنا أسمعهم يقولون بعد التحاليل المخبرية وغيرها أنني مصاب بورم في الرأس، حاولت الصبر، لكن ما باليد حيلة». انهار سعود خوفا على مستقبله الغامض، استسلم للأمر الواقع، ووجد في الحياة المليئة بالإيمان جرعات الصبر على المعاناة: «قلت لنفسي الموت واحد، ويجب ألا أستسلم للمرض، لأن الموت لا يأتي فقط من نافذة المرض، فلكل أجل كتاب، وما علي إلا الصبر، وإن فقدت اتزاني في بداية الأمر». سألهم سعود إن كان في قاموس العلاج دواء، فاستعانوا بأفضل القول: «لكل داء دواء». استعان بالله، وطلب التشخيص الكامل لحالته، فجاءه الجواب: «أنت مصاب بورم سرطاني في الرأس يقدر حجمه بنحو 3 سم في 2.5 سم، والأمل موجود حسب الطبيب المشرف على الحالة بإمكانية استئصال الورم وشفط الماء». عندها تنفس سعود الصعداء، «ولكن بعد مرور أسبوع واحد، أخطروني بأنهم لا يستطيعون استئصال الورم، ولكن سوف يقومون بإعطائي العلاج الكيماوي». ولأن سعود لم يعرف للكيماوي معنى غير الدواء المر، لم يضع في باله أن الداء ربما يزول سريعا، لكنه حمل في خاطره أن العلاج ممكن، والالتزام بالدواء في المواعيد المحددة ربما سارع بالعلاج: «خضعت لأول جلسة علاج بالكيماوي، لكنني بعدها أصبت بتشنج لمدة 20 يوما، وكانت جلسات العلاج الكيماوي كل أسبوعين، وعلمت أن أي تأخير في العلاج له مضاعفات، لكنهم أمهلوني أسبوعين». سارع سعود إلى المستشفى بعد مهلة الأسبوعين، التي راح فيها يعد الأيام حرصا على العلاج: «هناك في المستشفى الحكومي أفادوني بأنه لا يوجد سرير شاغر، وكنت ملزما بأخذ الجرعة الثانية من العلاج الكيماوي، والتي لم أتلقاها إلا بعد مرور شهر ونصف الشهر». في تلك الفترة طالب سعود من الطبيب المعالج عرضه على طبيب نفسي، أملا في تفادي التأثير النفسي: «لكن الدكتور رفض، وكلما ألححت عليه، وجدته ينهرني، دون مراعاة لمرضي وآلامي، أبلغته أنني سأشكوه لله أولا ثم للجهات المختصة ثانيا لاستعادة حقي منه، فلم يعر الأمر اهتماما، بل زاد في الأمر بإغلاق ملفي في المستشفى». حاول سعود مواصلة العلاج في المستشفى ذاته بلا فائدة، فلم يجد حلا سوى تحويل الملف إلى مستشفى الملك فيصل للأبحاث: «هناك كانت الصدمة الكبرى، إذ بعدما أجريت الفحوص اللازمة، تبين أن الورم في رأسي زاد حجمه إلى 6 سم، وأخبروني بأنني تأخرت في الجلسة الثانية، مما تسبب بشكل مباشر في مضاعفة حجم الورم. سألتهم عن العلاج فدعوني للصبر والتوكل على الله». اضطر الطبيب المعالج إلى منح سعود جلسات ما يعرف بالعلاج المغناطيسي بشكل مكثف: «ذكر لي أنه لا يمكن استئصال الورم، لكبر حجمه وما يشكله من خطر على حياتي في حال استئصاله، إلا أن بوابة الأمل كانت في أنه ربما نجح العلاج المغناطيسي في تثبيت حجم الورم، حتى لا يتجاوز الحجم الموجود حاليا». للمرة الأولى يشعر سعود بالفرحة الممزوجة بالألم، فالورم ربما يتوقف عن التضخيم، ولكن كيف يفعل بالورم الذي يعاني بسببه آلاما في الرأس، ويجعله لا يعرف التعرف على الشوارع، ودائم النسيان: «تسبب الخطأ في حرماني من الحياة بشكلها المعتاد، وأصبحت لا أستطيع الدراسة أو العمل، فلم يبق لي سوى الذكريات التي أقتات عليها قبل إصابتي بالمرض، ومن تراه السبب، هل هو السرير المشغول دائما في المستشفى الحكومي أم الطبيب الذي تأخر في العلاج الكيماوي؟». خرج سعود من الخطأ بشيئين الأول بطاقة معوق، يستطيع بموجبها أن ينال التعاطف من المجتمع، والثانية ورقة مختفية لا تشير إلا نهاية إلى المستقبل، ولكنه يؤمن بأن الحق يجب أن يستعاد، والقرار في يدي الصحة والحكم الشرعي