يُحكى أن أحدهم ذهب ليشتري بطيخة، فاشترط على الخضّار (بائع الخضار) أن يقوم بشقّها ليتأكد من أمرها، وما إن قام البائع بذلك إلا وأفصحت تلك البطيخة عن لبٍ أبيض، فما كان من البائع إلا أن قال ببداهة: الحمد لله لقد اختصرت عليّ طريق البحث عن البطيخة البيضاء التي أوصاني بها فلان فلقد نصحه الطبيب بتناولها فهي ممتازة لالتهاب المعدة التي يعانيها، حينها قال الزبون: سأشتريها منك بضعف ثمنها فأنا أعاني من نفس المرض، أتذكر هذه الحكاية كلما أبصرت ما تبثه بعض وسائل الإعلام العربية وعلى وجه التحديد القنوات الفضائية وهي تعرض هذا الكم الهائل من المسلسلات والمسابقات والبرامج الربحية السخيفة المستهلكة لتكون غذاء لعقولنا وأرواحنا، هل نحن فارغون جدا؟ هل نحن تافهون أكثر من أي وقت مضى؟ هل نحن ساذجون بامتياز ليتم الاستعداد لنا بهذه الطريقة؟ هل يتناسبُ هذا وواقعنا العقلي والأخلاقي والمعرفي والقيمي، أم أن ما يجري تسطيح و(تشطيح) وتسفيه للفرد عندنا؟ بائع الخضار يماثل تماما الكثير من القنوات الفضائية في ترويج بضاعتها الكاسدة بالتلفيق والتلميع إلا أن الفرق أن ذلك البائع أصاب ضحيته في (البطن) وتلكم القنوات تصيب ملايين الضحايا كل يوم في (العقول) و(الأخلاق) و(الأرواح). لذا نحن من بين الأدنى عقليا ومعرفيا وثقافيا وتقنيا، نحن باختصار نقف الآن في نهاية الواقع الحضاري إن لم نكن خارجه أصلا، وليس الأمر هنا جلدا للذات بل نقدا قد يُسلمها للتغيير ومن ثم التغير. مشكلتنا أننا نغرس الموت في ذواتنا بقصد أو دون قصد، مشكلتنا أننا نهمل دروس التاريخ ونغفل نتاج مفكرينا عمدا أو جهلا! ليتنا تذكرنا ما خرج به الغزالي بعد مسحه (الراداري) لتاريخ عصره حين قال (إن الانهيار العقلي والخلقي أرضية خصبة لانهيار الحياة بأكملها) وهذا ما أشار إليه المفكر مالك بن نبي حين عزا تراجع العرب إلى غياب العقل واضطراب الغرب لغياب الأخلاق. بالتأكيد نحن نستطيع الوقوف بوجه (التهديم) و(التعديم) و(التسخيف) حين نرفض كل ما تبثه تلك القنوات التافهة من برامج تسخر من عقولنا وتمتهن أخلاقنا وإنسانيتنا، ولن يكون ذلك إلا بالوعي الذي لا يمكن صنعه في ظل تغييب العقل (الأداة) وانكماش الواقع (المساحة الحضارية)، فالعقل هو السلاح الوحيد الذي يكفل تقدم بلد على آخر فالبلد الذي يحسن أفراده استعمال عقولهم لبناء المعرفة هو بلد يستحق التقدم والريادة كما قال مالك بن نبي وبالتأكيد أن ذلك الذي لا يحسن استخدامه سيتخبط في تقادمه وضعفه.