لم يكن متاحا لموقع ويكيليكس أن يحصل على كل ذلك الكم الهائل من المعلومات، بصرف النظر عن صحتها من عدمه، إلا عن طريقين لا ثالث لهما، أولهما اختراق استخباري عالي الحرفية أو المصادفة في ظروف استثنائية، وذلك ربما حدث للجندي المجهول الذي زود الموقع بكل تلك المعلومات. برادلي مانينج جندي أمريكي لولاه لما حقق ويكيليكس وصاحبه جوليان أسانج هذه الشهرة، ولما تأكد للعالم - وهذا هو الأهم- ما كان يشتبه فيه مما يحاك في كواليس الدبلوماسية الدولية. وجد مانينج نفسه مصادفة أمام ارتباك في عقيدته العسكرية عندما التحق بالجيش الأمريكي في سن ال18 حيث كان يعتقد أن هدف المؤسسة العسكرية هو حماية الشعب الأمريكي، ولكن ذلك ما لم يحدث عندما وقف على الحقيقة في العراق حيث كلف بإلقاء القبض على مدنيين عراقيين، ذنبهم الوحيد كتابة «نقد أكاديمي» للاحتلال الأمريكي، ثم تسليمهم إلى السلطات العراقية التي تذيقهم ألوانا من التعذيب الذي تحظره القوانين العراقية والأمريكية والدولية، وعندما حاول فضح هذه الممارسات طُلب منه أن يغلق فمه. وبحسب صحيفة «الإندبندنت» البريطانية التي نشرت ملابسات وصول الجندي الأمريكي لكل تلك المعلومات، فقد طفح الكيل بمانينج عندما اكتشف أن السلطات الأمريكية تسعى إلى التستر على مقتل 15 ألف عراقي، وأن سياستها الفعلية هي التغاضي عن ممارسة التعذيب. وفي سن ال21 وجد مانينج نفسه أمام خيارين إما التواطؤ مع مقترفي هذه الفظائع أو الامتناع، لهذا قرر أن واجبه الأخلاقي يفرض عليه أن يطلع الشعب الأمريكي على جزء مما يحدث. ولكن مانينج دفع الثمن بالسجن حيث أمضى الأشهر السبعة الأخيرة في سجن انفرادي وقد يحكم عليه بالسجن 80 عاما. الملل صنع الضجة وقد تم توظيفه جنديا بسيطا في وحدة الاستعلامات التابعة للجيش الأمريكي في العراق، حيث سمح له بالعمل على شبكتين معلوماتيتين مؤمنتين، يستعملهما العسكريون والدبلوماسيون الأمريكيون المنتشرون حول العالم. وكان يقضي معظم وقته في تصفح شبكة الإنترنت والتنقل من منتدى إلى آخر، بسبب قلة عدد أصدقائه ومعاناته من الملل، ويروي الطريقة التي تعامل بها مع الوثائق، «كنت أدخل إلى قاعة الإعلام الآلي وبيدي سي دي للموسيقى، ألغي الأغاني ثم أسجل الوثائق في ملف مضغوط.. لقد كنت أستمع إلى «الليدي جاجا» وأنا أقوم بأكبر عملية اختراق في تاريخ الولاياتالمتحدةالأمريكية». كما كان بعيدا عن أي شبهات لأن النظام متعثر، فالخادم ضعيف وكلمات السر يسهل اكتشافها، وأما النظام الأمني لأجهزة الكمبيوتر فضعيف هو الآخر. وقد عمل مانينج محلل استخبارات في القوات البرية الأمريكية, قام بتسريب وثائق سرية أمريكية تعنى بحرب العراق إلى ويكيليكس, وهو محبوس في زنزانة انفرادية منذ مايو 2010 فيما يعد أحد ألوان التعذيب في أمريكا. وسيواجه محكمة عرفية في 2011 حيث يتوقع أن يلقى حكما بالسجن 80 عاما بتهمة انتهاك المادتين 92 و134 من القانون الموحد للقضاء العسكري، حيث تحرم المادة 92 «نقل البيانات المصنفة إلى حاسوب شخصي، وإضافة برامج غير مصرح بها إلى نظام حاسوب مصنف», في حين تحظر المادة 134 «التواصل مع مصدر غير مخول وإرسال معلومات الدفاع القومي إليه وتقديمها له». في الحبس الانفرادي ويعتقد أن برادلي هو من سرب الفيديو السري الذي يكشف ملابسات قصف بغداد يوم 17 يوليو 2007 حين قامت أباتشي أمريكية بمهاجمة مدنيين عزل وقتلت 11 شخصا, من بينهم طفلان وموظفان في شبكة رويترز هما نمر نورالدين وسعيد شماغ. ووجهت رسميا إلى مانينج ثماني تهم جنائية وأربع أخرى تتعلق بارتكاب مخالفات للقوانين العسكرية. وهو متهم ب«نقل معطيات سرية على حاسوبه وتنزيل برنامج إلكتروني غير مأذون على نظام معلوماتي مصنف سريا»، بسحب البيان الاتهامي. كما أنه متهم بأنه جمع بطريقة غير مشروعة أكثر من 150 ألف برقية دبلوماسية. ويقبع مانينج في السجن العسكري في قاعدة كوانتيكو بولاية فرجينيا «شرق» في ظل إجراءات أمنية قصوى لأن السلطات تعتقد أنه يشكل خطرا على الأمن القومي، وبموجب هذا النظام الأمني المشدد، لا يمكن للمعتقل الخروج من زنزانته سوى ساعة في اليوم للقيام بتمارين رياضية، ويمكنه قراءة الصحف والتحدث إلى المعتقلين الآخرين وتلقي زيارات غير أنه يتناول وجباته في زنزانته. وتكون الزنزانة مجهزة بغطاءين وشراشف غير قابلة للتمزيق تجنبا لإقدامه على الانتحار، وهو إجراء احترازي ولو أنه لم تفرض أية مراقبة خاصة على المعتقل بهذا الصدد. وقد تم إيقاف وسجن مانينج في الكويت في البداية، ثم نقل إلى قاعدة كونتيكو العسكرية في فرجينيا بالقرب من واشنطن، ليدان في يوليو الماضي بتسريب وثائق ومعلومات تخص الأمن القومي. ويدافع العديد من الأمريكيين عن مانينج، حيث يرى فيه اليسار المتطرف شهيد حرية التعبير، فيما أسس البعض لجنة لدعمه تقوم اليوم بتنظيم تجمعات وجمع مبالغ مالية للدفاع عنه .