قبل أن يتم اكتشاف أستراليا كان أناس العالم القديم على قناعة تامة بأن جميع طيور البجع إنما هي بيضاء، ولعل الوقوع على البجعة السوداء الأولى كان يمثل مفاجأة مدهشة! وهذه المسألة تؤكد شدة محدودية معارفنا المستقاة من الملاحظة والتجربة، كما تشير إلى مبلغ هشاشة مداركنا عن الأشياء والأمور. ويذكر الدكتور نسيم طالب مؤلف كتاب«البجعة السوداء» أننا نميل إلى التصرف كما لو أن الحقيقة هي ما نعرفه أو ما تعلمناه مسبقا، وبذلك أصبحت لدينا خلطة ينتح منها ضعف التوقع وشدة الأثر، تجعل من حقيقة وجود البجعات السوداء لغزا محيرا. وهو أقرب في اعتقادي لمبدأ العادة الذي وصفه ديفيد هيوم في كتابه «مبحث في الفاهمة البشرية» حين ذكر أنه يجب أن نكتفي بوصف «مبدأ العادة» المبدأ الأخير الذي يمكننا تعيينه، ولا داعي للتذمر من ضيق ملكاتنا لأنها لا تريد أن تقودنا إلى أبعد مما نتوقع، وينتهي إلى أنه لا يمكننا التوغل أكثر، لأننا سنعود للدوران في الدائرة نفسها، فالعقل عاجز عن الخروج منها، وعبّر عنها في قانون السببية دون أن نمنع أنفسنا من التوقع والتجربة في الوقت نفسه. هذا المزيج المركب بالإضافة إلى طريقة التلقين وتلقي المعلومات المعرفية من جيل إلى آخر كحقيقة غير قابلة للنقض، جعلتنا أسرى للانتظار! فعندما نرمي حجرا في الهواء «ننتظر» حقيقة سقوطه على الأرض، لأننا اعتدنا كبالغين من خلال التجربة المسبقة على ما سيحدث لاحقا. وعندما تسكن هذه الأفكار الجازمة عقولنا فإننا سرعان ما نرفع من مقامها بحيث تكون غير قابلة لإخضاعها للنقاش أو وضعها تحت المجهر لأن لدينا ميلا لمعاملة معرفتنا وكأنها مكتبة شخصية ينبغي علينا المحافظة عليها بشيء من المبالغة دون أن نقيم اعتبارا ووزنا لكل ما لا نعرفه بعد في تلك الكتب الأخرى غير المقروءة! فالاعتقاد بأننا نفهم أكثر مما ندرك في الواقع هي فكرة مثالية لا يمكن الجزم بها أيضا.