أبعد أن اخضر نجم الأرض على صعيد الفؤاد، وتسلقت بذور الأمل على سبخة اليأس، تنتزعين مني نياط القلب، ومشجب الدم، كأن شيئا لم يكن؟! أواه.. أواه.. لك الله يا أماه. ألا تكتفين يا أماه بويلات الدهر ولوعاته.. حتى تؤبلي ضغثي، وتبللي طيني، وتثلثي السهم (الأول)، و(الثاني)! فهل للبعير بعد القشة من ظهر يا رجاء الحياة؟! أبكي على أي نوع من الإنسانية أفاضت به كل ذرة من كيانك الملائكي الطاهر؟! لو كان يوما واحدا أو أياما لاستطعت أن أختصرها بقالب من الحسن أنت بديعه وبيانه. ولكنها حياة قائمة، وأمة كاملة، ومستوى إيماني رفيع، وسجل من الإنسانيات لم يكتب بقلم الإنسان، وقالب من النور لم يخدش ضياءه ليل، وأحرف من الأوزان لم تحكم بقانون القافية! يا فردوس الله في أرضي: إني لأقبل جسدي لأنه افتتح الحياة بجسدك اللدني الشريف. لقد أحببت نفسي يا أماه، أتدرين؟ لأنك تحبينها. فاللهم إني أسألك حبك وحب من يحبك، وحب العمل الذي يقربني إلى حبك، ثم أسألك حبها وحب من يحبها وحب العمل الذي يقربني إلى حبها. ولما ذقت أول طعم هذا الوجود، نظرت إليك عيني: فكأن الحياة ابتسمت لي بأوسع ثغر، وضحكت بأجمل صوت، وعزفت على سيمفونية البهاء بأعذب لحن. فلك الله يا أماه. تخبرينني عن ملاعب الصبا يوم أن كنت طفلا جذلان؛ ربما يمرح في حقول الأقحوان، أو يتمرغ تحت ظلال الزيزفون، وربما لقب بشتى ألقاب العالمين، عظمة وسوءا فتبشرينني بالمستقبل الواعد، كأنه ملك يمينك، وأنت لا تمسكين منه إلا كما يمسك أحدنا بالماء. ثم نشأت على يديك كما تنشأ الزهرة تحت فتاة بضة؛ ترعاها بكرة وعشية؛ فتصبح بها وتمسي؛ وتجعلها صبوحها وغبوقها، حتى يصلب عودها، وتستوي على سوقها. إني لأرى فيك حين تضحكين جلالة الكون، وسحر العبادة (فسبحان من بضروب الحسن حلاك). يا كل لفظ محكم النسج، محبوك الصياغة، لا تعرف أين محلك: تعال لتفخر أن تكون وصفا متواضعا لهذه الأنثى العظيمة. يا كل قصيدة رائعة النظم، بديعة الإيقاع: أقبلي فهذا مكانك فاحضري وأقيمي. يا كل قاعدة إشراقية، أو قيمة إنسانية: هل أنت إلا تفسير لهذا المثال الجميل كالتمثال؟! {رب ارحمهما كما ربياني صغيرا}