قالها وزير الشؤون الاجتماعية رئيس اللجنة الوطنية لرعاية السجناء والمفرج عنهم وأسرهم الدكتور يوسف العثيمين: «أتمنى من قضاتنا الميل إلى إصدار أحكام بديلة للسجن بكثافة مستقبلا». وأعلنها الوزير صريحة: «أرجو أن يشيع هذا التوجه في إصدار الأحكام البديلة من مجلس القضاء الأعلى بعد تفهم إيجابية تلك الأحكام ومساهمتها في طمس النظرة «السوداوية» تجاه السجناء المفرج عنهم من قِبل المجتمع». وبينها الوزير علانية: «أمر إسقاط السوابق عن المفرج عنهم، ليس غائبا عن مسؤولي الإدارة العامة للسجون، وهناك بحث جاد ومناقشات مع عدة لجان لمسألة إمكانية إسقاط السوابق عن المفرج عنهم». ولعل استشهاد الوزير بواقعة إيقاف تنفيذ سجن شاب لمدة شهر قبض عليه في قضية مخدرات في حال إعداده بحثا عن أضرار المخدرات، أعاد الجريان لملف المياه الراكدة المتعلق بإسقاط السوابق، التي باتت «وصمة» كما وصفها الوزير تلاحق المخطئين، فيما باب التوبة تجاه المجتمع مغلق حتى إشعار آخر. وإذا كان «أطفالهم لا ذنب لهم»، وفق الرسالة التي أعلنتها وزارة الشؤون الاجتماعية، في أسبوعها التوعوي، فما معنى أن يترصد القطاع الخاص للمفرج عنهم، ليحرمهم من أبسط أنواع الدعم منعا للعودة للجريمة؟ وما معنى أن تكون التوبة في السجن عنوانا عريضا للمخطئين، ويهدف إلى تصرف خاطئ من بعض المستثمرين، لإعادة التائبين إلى نقطة البداية، وربما النهاية بالوقوع في الملف الخاطئ، بعدما لم يجد ما يقتات عليه وأطفاله؟ وما دام وزير الشؤون الاجتماعية أعلنها وأكدها في رسالة للمجتمع، بدافع إنساني بتأكيد أن: «هؤلاء المفرج عنهم يظلون إخواننا، وزلت بهم أقدامهم لارتكاب خطيئة»، أفلا يكفي عقابا؟ طلقاء مسجونون في الماضي كانت المقولة التي يرددها الكثير ممن وجدوا أنفسهم خلف العنابر، ويعتقدون أن العقوبة لا تتناسب مع ما اقترفوه من ذنب: «يا ما في السجن مظاليم»، ولكن تبدل الحال، وأصبح الكثير من المفرج عنهم يردد: «طلقاء لكنهم مسجونون». ويبدو واضحا أن ملف التوظيف الذي يتفاقم يوما بعد آخر مع أصحاب الصفحات البيضاء، يشكل عقبة إن لم يكن مستحيلا، مع أصحاب الصفحات السوداء. فكيف يريد المجتمع من هؤلاء العودة لسابق العهد، والبراءة من الذنب، والعيش بروح جديدة، وهو يغلق الباب أمام استيعابهم بأبسط مقومات الحياة، المتمثل في الوظيفة الشريفة؟ معاناة واقعية م. ه سجين بسجن أبها العام، قاده الشيطان للسرقة، فتورط باقدامه، ليدخل السجن، وفيه يعلن توبته وندمه على ما اقترف، ولكن: «حكم علي بالسجن ستة أشهر وبعد خروجي بدأت البحث عن عمل لمدة وصلت إلى ثلاثة أعوام، ولكن دون فائدة، فجميع الشركات التى أتقدم لها تصر على صفحة الأدلة الجنائية، وتعتذر مني لأنني من أصحاب السوابق، لأجد نفسي منفذا لفكرة شيطانية جديدة، عدت على إثرها إلى السجن بالتهمة الأولى نفسها التي تبت منها، ويعلم الله توبتي، لكنني لم أجد القوت الذي يطعمني مما أعادني إلى الجريمة مجددا». ويعترف المذنب أن فقدان الوظيفة وحده، ليس مبررا لعودته للسرقة: «لكنني استسلمت للشيطان الذي غرر بي فأوقعني في الفخ مجددا، وإذا كان المجتمع الوظيفي هيأ لي سبل الفرار من الجريمة، فترى هل كنت ستسلم بهذا الضعف؟». ويشير إلى أن العشرات من رفاقه في السجن، في مثل حالته: «هم تائبون وعائدون للعنابر، والسبب في نظرهم واعتقادهم لقمة العيش الغائبة، فيما القيود وضوابط الضمان الاجتماعي هي الأخرى تقف حائلا أمام الاستفادة من الإعانة الكريمة التي تطعم الخارجين من العنابر». أصبحت مجرما أحمد محمد نموذج آخر لمن دخل السجن بتهمة السرقة، وخرج منذ ثلاثة أشهر، ولكن نظرة المجتمع تغيرت تجاهه: «الكل أصبح يبعد ابنه عن الاقتراب مني، أو الركوب معي، أو حتى الجلوس في الأماكن التي أوجد فيها، وأصبح الجميع يضربون بي مثلا في الإجرام، وذلك بسبب تهمة أبقتني مجرما ما حييت، فهل أصبح هكذا، وكيف أغير هذه النظرة القاصرة». شغب الشباب أما الشاب عمر فأصبح حبيسا لهمومه، ويتذكر تلك الأيام التي أوقعته في هذا الفخ أو البئر كما يصفه: «كنت في أيام الدراسة شابا مجتهدا، ومجدا في دراستي، أخشى وأخاف من ظلي، فما بالك بدخولي بالسجن، لكنني للأسف دخلت السجن اثر مضاربة جماعية كانت لأبناء قبيلتي مع أبناء أحد القبائل المجاورة، وجلست بالسجن مدة شهرين، وبعد خروجي أصبح الجميع يهابني، لأنني من وجهة نظرهم أصبحت وحشا لا يأبه بأحد، ولا يحترم أي أحد، وكما يقولون رد سجون، فدفعني الوصف للتغير إلى الأسوأ، بطشا وظلما، في ظل غياب الرقيب والناصح الأمين، فلازمني السلسال في جيبي، حتى تطور إلى حمل سكين، التي كانت سببا في عودتي للسجن، إذ سددت طعنة إلى عامل بوفيه نفذت للرئة، لكنها بحمد الله لم تقتله، لكنني نلت عقوبة السجن على جريمتي». رد اعتبار يحيى حسن نموذج آخر لمن قاسى معاناة رد الاعتبار، وإن كان الأمر لا يتعلق له بل بأحد أقربائه، الذين طالهم القصاص بعدما ارتكب جريمة القتل، لكنه في نهاية الأمر وصل لقناعة مفادها «السابقة لا يمكن شطبها، وإن كانت على ميت». وبين أن التفاصيل تعود عندما نفذ الحكم الشرعي في قريبه: «قدمت لبعض شركات الهاتف النقال، حتى أسدد ما عليه من مديونية إبراء لذمته من كل شيء، وتم ذلك، لكنني تعجبت من أن اسمه مسجل في الأدلة الجنائية من أصحاب السوابق، على الرغم من أنه فارق الحياة، فما الفائدة من تسجيل سابقته الجنائية وهو في ذمة الله، أم أن الأمر معناه تحميل العار لمن خلفه من ذرية وأقارب حتى آخر العمر، خصوصا أن لي حاليا ما يقارب من ثلاثة أعوام، أملا في رد الاعتبار لميت، وحذف السابقة المسجلة عليه ولكن دون جدوى». عودة للضلال ويعتقد المعلم في أبها محمد سعيد الرافعي أن: «السابقة للأسف وظفت بشكل خاطئ، ولم يفهم المقصود منها، فيجب أن يكون لها تشريعات وقوانين ثابتة، وألا تكون سيفا مسلطا على السجين، داخل وخارج العنابر، في كل الحالات، وفي كل الجنايات، وربما يدفع ذلك المفرج عنه للعودة إلى طريق الضلال». إجراء لا بد منه وينظر مدير الإصلاح والتأهيل بسجون منطقة عسير والخبير في علم الجريمة الدكتور مضواح بن محمد آل مضواح، لتسجيل السابقة الجنائية كإجراء لا بد منه لمصلحة الأمن. ويرى أن التسجيل الجنائي لا ضرر منه في حد ذاته: «إنما الضرر في التوظيف الخاطئ للسابقة، فعندما تستخدم لمنع المفرج عنه من الحصول على وظيفة تدر عليه مصدر رزق شريف فإنما ندفع به مرة أخرى لأتون الجريمة دفعا، ويصبح الأمر في غاية المفارقة والغرابة، عندما تكون السابقة الجنائية سببا كافيا لمنع المفرج عنه من الحصول على وظيفة حكومية، في الوقت الذي نصرخ فيه ملء حناجرنا مطالبين القطاع الخاص بتوظيفه». ويشير إلى أنه إذا ما ألقينا نظرة على التعليمات الصادرة بشأن تسجيل السابقة ورد الاعتبار، فسنجد أنها تدرجت عبر مراحل، ما يعني أن مراجعتها بين وقت وآخر وتطويرها أمر دارج خلال الأعوام الماضية: « ومن المؤكد أنها تحتاج اليوم إلى المراجعة والتطوير كي تساير الأنظمة العدلية في تطورها، ومن المهم جدا أن ينتقل تسجيل السابقة من مرحلة التعليمات الصادرة على هيئة قرارات وتعاميم، إلى مرحلة صياغة نظام دقيق يضمن استغلال تسجيل السابقة للأغراض الأمنية فقط، وليس لقطع الأرزاق». مراحل تطور وبين أن إجراء تسجيل السابقة وإجراءات رد الاعتبار مرت بمراحل تطور من خلال القرارات والتعاميم المتعلقة بهذا الشأن، لكن خطأ المنفذين في توظيف السابقة ظل ثابتا منذ أول قرار صدر بهذا الخصوص: «كان من المفترض أن يطوله التغيير والتطوير شأنه شأن الإجراءات المتبعة في تسجيل السابقة، والتي تفتح مجالا كبيرا لتوظيف السابقة بشكل يجعلها عاملا من عوامل الإصلاح، وليس من عوامل العودة للجريمة، لذلك أقترح أن يقتصر توظيف التسجيل الجنائي للسابقة على أمرين فقط، وأن تكون ظرفا مشددا للعقوبة، أن تكون مانعة للشخص من تولي الوظائف التي تنطوي على عمل من جنس نمط الفعل». نظرة المجتمع وبين رئيس لجنة رعاية السجناء بمنطقة جازان والمتخصص في العدالة الجنائية علي بن موسى زعلة، أن السجين لطالما يصطدم بنظرة المجتمع ومعاملة أفراده له باعتباره مجرما ما يولد لديه الشعور بالغربة والإحساس بالقهر والرغبة في الانتقام من مجتمعه الذي لم يحتضنه، وبالتالي يصبح المفرج عنه فريسة سهلة لرفقاء السوء والعودة للسجن مرة أخرى. وأشار إلى أن صحيفة السوابق تعد من أهم المعوقات التي تعترض السجين بعد إطلاقه وتحول بينه وبين عودته لوظيفته الحكومية، أو البحث عن فرصة عمل مناسبة: « وعلى الرغم من كل الجهود والمحاولات الإيجابية التي تبذلها الإدارة العامة للسجون في المملكة، والتي ساهمت إلى حد ما في تخفيف الآثار السلبية لهذه الصحيفة وإيجاد قواعد مرنة لتسجيل السوابق وفقا لدرجة الجريمة وخطورة السجين، إلا أن الوضع لا يزال يتطلب تضافر جهود المختصين بوزارتي الداخلية والعدل وبمشاركة بعض مؤسسات المجتمع المدني مثل جمعية حقوق الإنسان ولجنة رعاية السجناء لإعداد نظام متكامل ولائحة تنفيذية تشتمل على آليات واضحة تحد من القيود المفروضة على السجين السابق، وتساعده على التخلص من هذه الوصمة التي تلاحقه وتحرمه أسباب العمل الشريف وتهيئ الظروف المناسبة لبدء حياة جديدة يخدم من خلالها وطنه ويرعى أسرته». الإلغاء ضروري وتعتقد رئيسة القسم النسائي للجنة بجازان والناشطة الحقوقية عائشة شاكر الزكري أن صحيفة السوابق هدم واضح وصريح لكل الجهود المبذولة لرعاية السجناء لإدماجهم في المجتمع كأفراد صالحين وفاعلين: «أرى في توجيهات النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية والرئيس الفخري للجنة الوطنية لرعاية السجناء والمفرج عنهم وأسرهم، وحثه المستمر لعمل الدراسات المتعمقة لصحيفة السوابق وتأثيرها في مجالي التعليم والتوظيف، أمر يبشر الجميع بالخير، وينقلنا من الواقع المؤلم للمستقبل المأمول إزاء هذه الفئة». وتشير إلى أن السابقة الجنائية ما هي إلا مغالطة لمبدأ الإصلاح، لكونها عقوبة أخرى لجريمة واحدة كما أن التعامل بمبدأ الشك تجاه المحكوم عليهم يولد لديهم ميول باطنية للعودة إلى طريق الخطأ والضلال ودون أدنى شك: « لذا لا بد أن نكون كمجتمع وكهيئات وأفراد ذا نظرة إيجابية مع إخواننا الذين حكم عليهم القدر بالخروج عن القانون وتم تطبيق الجزاءات المستحقين لها، وألا نغلق باب التوبة عليهم فنحن لسنا أكثر عدلا من الذات الإلهية». ودعا شيخ قبائل زهير بعبيدة قحطان علي بن مسعود أبو سكيتة، إلى ضرورة تقبل السجين من جميع كبار القبيلة أو الحي الذي يسكن فيه ومساعدته ماليا ومعنويا، سواء لفتح مشروع تجاري أو إعادته إلى وظيفته: «على شيخ القبيلة دور كبير جدا في توعية أبناء قبيلته وردعهم عن الشبهات، بكل ما يستطيع من قوة ليساهموا في حركة البناء، لا ليعطلوها». الوظيفة أولى ويرى رجل الأعمال سعد أبو قفرة أهمية حصول السجين فور خروجه من السجن على وظيفة لكى تحسسه بالأمان، وكذلك حفظا لكرامته كونه بشرا يخطئ ويصيب: «يجب علينا جميعا التكاتف والإحساس بالمسؤولية، فهؤلاء أبناؤنا ويجب علينا مراعاة حسن التصرف معهم لإخراجهم من عالم الجريمة إلى عالم الود والتسامح» .