سمعت أنغام نايه قبل أن أراه.. حدث ذلك قبل بضعة أعوام أمام أبواب مركز البحرين للمعارض إبان زيارة لأحد معارض الكتاب هناك. كان يجلس على كرسي صغير، وعلى ركبتيه وضع صندوقا من الخشب شبيها بحصالات النقود، تلك التي يحتفظ بها الصغار مع أسرارهم. يتلوى جسده النحيل مع إيقاع نايه غير عابئ بضجيج الأقدام التي تمر من جواره. لم أقترب منه إلا الأسبوع الماضي، حين تتبعت خطى صاحبي الذي دفعه الفضول للاقتراب منه، كان شابا في أواخر عقده الثالث لكن مسحة الحزن التي تجلله جعلته يبدو أكبر من ذلك، ولما وصلت إليه كان يعزف أغنية لمحمد عبده وصاحبي جالس بجواره يستمع، وما إن انتهى من عزفه حتى سأل صاحبي: هل معك أحد؟ بصيرته قادته للشعور بأن أحدهم اقترب، تحدث معنا بمرح، وعزف مرة أخرى أغنية حزينة «أغلى حبيبة» لراشد الماجد فنسينا معرض الكتاب وكل ما فيه. وحين وضع صاحبي فوق صندوقه ورقة نقدية تحسسها بأصابعه وأخبرنا بقيمتها فتعجبت من إحساسه العالي تجاه الأشياء، توجهنا إلى السيارة وشعور بالأسى يتنامى في داخلي. في طريق عودتي كنت أقارن بين هذا الفنان الكفيف وبين أولئك الذين يتزاحمون على السيارات عند كل إشارة ضوئية أو أمام المساجد وفي الأسواق العامة ويتطفلون على المارة بأساليب وقحة ومنفرة، وبغياب شبه مطلق لأجهزة الرقابة، ما سبب نفور بعض المحسنين منهم وشكهم بكل من مد يده طلبا للمساعدة. كلا الفريقين قادته الحاجة إلى الخروج للشارع وسؤال الناس، لكن هذا العازف لم يضيع حياءه ويستدر عطف الناس بما ابتلاه الله، كما يفعل بعض أولئك، بل استغل الموهبة التي يملكها وسعى لتطويرها ومن ثم تقديمها بشكل راق ومميز يشعرك بالرضى والامتنان وقبل ذلك الاحترام لهذا الإنسان/ الفنان. ولو أن كل عاجز من أولئك امتلك شيئا من طموح ذلك الرجل وعمل في الحدود التي يسمح بها عجزه لكان خيرا له من ذلك الوقوف المشين وسؤال الناس.