اختفت نمير ابنة ال15 سنة وبعد يوم واحد، اطلعت على صورتها في الصحف، فاستدلت على الأشرطة، وعادت لأسرتها، التي أذاعت الخبر، وصاحت بفم مليان: «ضاعت نمير». ولم تكن نمير هي الأولى، وحتما لن تكون الأخيرة في مسلسل الأطفال التائهين في جنبات المسجد الحرام في مكةالمكرمة، خصوصا أن الكبار أيضا يعدون من أبرز التائهين في ذلك المكان، لاتساعه من ناحية، ولعدم الوعي من ناحية أخرى. وخلال موسمي العمرة في رمضان تحديدا، والحج، فإن الأطفال يرافقون أولياء أمورهم في الساحات وأروقة المسجد الحرام، وفي ظل حرص الآباء على الخشوع في أداء مناسك العمرة، تتبدد الفرحة: «ضاع الولد». جملة تبدأ معها المعاناة لأولياء الأمور، الأب يلوم الأم، والأم تلوم الأب، والأبناء، وتتقاذف الاتهامات، وتتسع الخطوات في سبيل العثور على الصبي الذي لا يعرف حتى أرقام هواتف الآباء، وأحيانا لا يعرف اسمه في ضوء صغر سنه. وإذا كان الأب ممن يعرفون العاصمة المقدسة، فإن الخطى تتسارع باتجاه الجهات المختصة، ليسجل بلاغ فقدان، إلا أن جهل الأطفال وزحام الصغار، وضخامة العدد من الزوار ربما تصعب المهمة في العثور السريع على الطفل، لتبدأ الأمهات في الصراخ، ولكن من المسؤول عن الضياع، أهي الأسرة التي أهملت ربما ابنها، أم أن الجهل بكيفية الحرص على هؤلاء، أم شقاوة صغار. ومن يتحمل هذه الأعباء، أليست الجهات الأمنية يجب أن تتفرغ لإدارة الحشود، بدلا من آلاف البلاغات لفقدان الأطفال، وأحيانا كبار السن، وربما بلاغات عن نساء؟ وما صحة ما يقال عن عصابات تصطاد في المياه العكرة، لتترصد الأطفال التائهين، وتخطفهم إلى جهة ما، وبافتراض وجود مثل هذه العصابات، أليست الأسر مسؤولة مسؤولية مباشرة عن توفير الغنيمة لتلك العصابات، والتي لا تتجرأ على خطف طفل من حضن أمه أو من بين أيادي والديه؟ وإذا كانت نمير التي اختفت من أسرتها فجأة، في جنبات المسجد الحرام، فتحت الملف، لكن عودتها سريعا، تجعل الأمر من السهل معالجته لكن ماذا عن الأطفال الذين لا يعرفون عن أسرهم شيئا؟ قصة ضياع يعترف أحد المعتمرين، ورب أسرة ويدعى عتيق الرحمن بأن الأسر تتحمل تبعات ما يحدث لأبنائهم من ضياع وفقدان من داخل الحرم ولفت لموقف عاشه مع غرة شهر رمضان، حيث اضطر في ظل عدم وجود من سيمكث عند طفله لرعايته بأن يصطحبه معه للحرم، فكان حريصا على متابعته، ولكن وفجأة مع تدافع المعتمرين داخل صحن الطواف افتقد طفله، فأخذ يركض كالمجنون بحثا عنه، ولكن دون جدوى، ما هداه للتوجه العاجل لرجال الأمن الذين قاموا بالتعميم على بعضهم عبر أجهزتهم اللاسلكية بعدما تحصلوا على أوصاف طفله، وماهي إلا دقائق على حد قوله حتى عثروا على الطفل بالساحات الشمالية للحرم: «بعدها بدأت أكثر حرصا عليه، ولو أدى بي ذلك بأن أوثقه في ظهري لأنه من الصعب علي المكوث بالفندق، وأنا قدمت من بلدي بهدف اغتنام هذا الشهر الكريم والوجود وسط هذه الأجواء الإيمانية والتنعم بقدسية المكان». عبث الصغار لكن المعتمر إبراهيم زينل، أبدى استياءه كثيرا ما تسبب فيه الأسر من إهمال لأبنائهم وعدم متابعتهم، مطالبا بتدخل الجهات المختصة ووضع الحلول الكفيلة التي تحد من ذلك، ولاسيما أمام الأطفال الذين يتركهم أولياؤهم يلهون بداخل الحرم كيفما يشاؤون، عابثين بأجواء الحرم الإيمانية، وقد تشبع المكان بأصواتهم وابتلت الأرضيات بمياه زمزم، التي يتقاذفونها فيما بينهم، ولا يسلم معها أحد من المصلين الذين يكونون لحظتها على مقربة منهم: «ذات يوم كنت خاشعا أرتل آيات من الذكر الحكيم، لأجد المياه التي يعبث بها الأطفال فوقي، فمن يتحمل وزر ذلك». أرقام التائهين قائد الساحات الشمالية والغربية في الحرم المكي الشريف المقدم عمر العدواني، أعلن في تصريحاته أخيرا أنها أبرز المصاعب التي تواجه الفرق الأمنية العاملة في محيط الحرم المكي في موسم العمرة: «ضياع الأطفال مهمة صعبة، حيث يردنا أكثر من 100 طفل تائه يوميا، نوصلهم إلى مقر الأطفال التائهين، ولذلك أدعو أولياء الأمور إلى وضع رقاقة كرتونية أو ورقية حول معصم الطفل، وكتابة اسمه، ورقم الهاتف المحمول، واسم الفندق لكي نتمكن من إيصالهم إلى أسرهم في أسرع وقت». وإذا كان الحل من وجهة نظر المقدم يتمثل في ورقة صغيرة، هل يعود الأطفال سريعا بهذه الأوراق، أم أن صغر سنهم ربما يجعلهم يمزقونها، وتصبح عديمة الجدوى؟ الأسر مسؤولة قائد قيادة شرطة الحرم المكي العقيد يحيى الزهراني، لم يتردد في تحميل الأسر فقدان الأطفال، مشيرا إلى أنهم ومن خلال اصطحابهم لأبنائهم معهم خصوصا في المواسم التي تكثر فيها عمليات الازدحام والتدافع بين المعتمرين والزوار واكتظاظ صحن الطواف والمسعى، بأعداد غفيرة وهو ما لفت إلى أن تلك أحد العوامل المساعدة في فقد الأسر لأبنائهم: «بفضل من الله لم يحدث أن سجلت الجهات الأمنية حالات فقدان نهائي، وذلك يعود للانتشار الواسع لرجال الأمن والفرق الأمنية الأخرى المساندة بكل جنبات الحرم الداخلية والخارجية والساحات المحيطة بها، لكن ذلك قد يكلف رجال الأمن بأعمال ومهام أخرى، بجانب مهامهم التنظيمية والمتابعات الأمنية، إلا أنه وفي نهاية المطاف هي واجبات وجد رجال الأمن لمجابهتها، والقيام بها وحفظ الأمن وإغاثة الملهوف ديدنهم الشاغل». وأعاد العقيد الزهراني إلى الأذهان الاقتراح الداعي إلى توفير حاضنات لمثل هؤلاء الأطفال خصوصا القصر الذين تضطر أسرهم إلى اصطحابهم معهم. التوعية مطلوبة وأوضح الشيخ عبدالرحمن العتيق بقسم التوجيه والوعظ بالحرم المكي أن اصطحاب الأبناء بات سمة: «لا تستطيع أي أسرة ترك أبنائهم خلفهم، وذلك أمر بدهي». ولكن غياب رقابة تلك الأسر لأبنائها يتمخض عنه حدوث حالات الفقد، وهناك أيضا من يتسبب في أن أبناءهم الأطفال وأثناء وجودهم من الداخل إلى تعكير صفو المصلين وتشتيتهم عن عباداتهم، وخروجهم من خشوعهم، ما يدعو إلى أهمية تكاتف الجهات المسؤولة، حيال ذلك الأمر والخروج ببدائل كفيلة وذات فاعلية قصوى، مع أهمية توعية الأسر التي تصطحب أبناءها عبر التوجيهات من قِبل المعنيين من داخل الحرم». حاضنات للأطفال وأشار مدير العلاقات العامة بالمسجد الحرام الشيخ أحمد منصوري، إلى أن الرئاسة العامة للمسجد الحرام لا تألو جهدا في كل ما من شأنه خدمة وراحة ضيوف الرحمن وزوار البيت الحرام: «الخدمات التي قدمتها الرئاسة، شكلت منظومة متكاملة مع الجهات المعنية، وذلك بغية التيسير على المعتمرين والعباد، لكن نحن بحاجة إلى توعية الأسر والتوجيه حيال كيفية التعامل مع أبنائهم خصوصا في أماكن الازدحام، والرئاسة وبجانب عمل جهات الاختصاص فإنها أيضا أكدت على منسوبيها بالمباشرة الفورية في حال مصادفتهم أيا من المفقودين سواء من الأطفال القصر أو حتى كبار السن، وهناك دراسة تجري حول مدى الاستفادة من إيجاد أماكن مخصصة للأطفال أشبه ما تكون بمستويات الحضانة، ولكن تبقى تلك الدراسة قيد التشاور والبحث من قِبل المختصين بالرئاسة مع الجمعيات الخيرية، وفي حال استوفت كل جوانبها، وتوافقت مع الاشتراطات النظامية وتحصلت على تصاريحها فإن العمل بها سيتم في حينه». مهمة صعبة لكن رجل الأعمال المكي منصور أبو رياش يرى أن الفكرة صعبة التنفيذ: لم تصل رئاسة الحرم المكي لمستوى إنشاء حاضنات للأطفال بقدر ما هو مطلوب منها في مجالات أخرى، تصب في راحة زوار البيت العتيق، ومثل تلك المشاريع من مسؤولية المنشآت المعنية بإيوائها لأولئك المعتمرين والحجاج فهي تمتلك وعبر مبانيها الإمكانيات في تخصيصها لأجزاء منها، وتهيئتها كحاضنات للأطفال وتوفير كل الأيادي المؤهلة بالعمل بها كما هو حالها من خلال تخصيصها مواقف أسفل منشآتها المعنية بمركبات وسيارات نزلائها، ومن الصعب أن تتحمل جهة بعينها كرئاسة الحرم إيواء ما يربو على 300 ألف طفل وهناك من هم أولى بذلك بحكم مسؤولياتهم كشركات ومؤسسات إسكان المعتمرين والزوار، وهو أمر يحتاج فقط إلى تفعيله من قِبل الجهة المختصة، خصوصا في ظل ما يصاحب وجود الأطفال في أروقة الحرم المكي الشريف من علو بالأصوات وتعمدهم تشتيت صفوف المصلين واللهو بمياه زمزم على أثواب وأجساد المصلين، مما يفرض على المختصين والمهتمين بإيجاد البرامج التوعوية وإيصالها بكل شفافية ومنطقية إليهم» .