القارئون في الأدب الأمريكي يعلمون أن سامويل كليمنز (18351910)، المعروف دائما باسم «مارك توين»، قد شدد في وصايا عديدة بعدم نشر سيرته الذاتية بكاملها قبل مئة عام من وفاته (أي 2010)، وقد كان له ما أراد، إذ تجري هذه الأيام اللمسات الأخيرة على ما يعتبر السيرة الذاتية الكاملة والأصلية لمارك توين، استعدادا لنشر جزئها الأول في شهر نوفمبر المقبل عن مطابع جامعة كاليفورنيا. هذا الكاتب المعروف بسخريته اللاذعة وفكاهته المتجددة، كان قد فقد شيئا من البريق في المرحلة التي تلت وفاته، رغم أن شهرته وصلت إلى أوجها في نهاية القرن 19 وبداية القرن 20، وهو من سماه ويليام فولكنر الأب الحقيقي للأدب الأمريكي. فما الجديد الذي ستضيفه هذه السيرة بعد كل ما كتب عن مارك توين؟ النقاد يقولون الكثير؛ فمن اطلع على السيرة المنشورة عام 1924 (14 عاما على وفاته) سيدرك أنها لم تتضمن جميع أجزاء السيرة التي أرادها توين أن تخرج للنشر، ولا يزال هذا الإجراء الانتقائي من قبل ألبرت باين- محرر السيرة والقريب من مارك توين قبيل وفاته- لا يزال مثار جدل من قبل الباحثين الذين يذهب بعضهم إلى أن باين مارس رقابة متشددة على تركة هذا الكاتب، بينما يرى البعض أنه نفذ وصية توين باختزاله النص، لكن الحقيقة أن تلك السيرة خرجت في النهاية كما يريد ألبرت باين لا كما اشتهى مارك توين. وفي مقدمة السيرة، يتناول توين أسباب رغبته حجب تفاصيل حياته كل هذا الوقت، فهو يرى أن الحديث من القبور له مصداقية لا يمكن للأحياء امتلاكها، لكن السؤال المحير أيضا: لماذا مئة عام؟ يبرر مارك توين نفسه هذا الانتظار بحرصه على ألا تجرح آراؤه بعض الأصدقاء والمقربين، لكن النقاد يرون أن توين كان يدرك رعونة القارئ الأمريكي في ذلك الوقت وعدم تقبله لآراء لا تزال تصنف إلى اليوم بأنها يسارية ومتطرفة. وها نحن نعلم اليوم- من خلال ما تسرب ونشر عن هذا العمل- أن السيرة تعدنا بقراءة «مارك توين مختلف»، أي: توين وهو ينتقد أصدقاء مقربين وشخصيات سياسية بارزة، بل ويتحدث عن علاقته بالنساء. كما يتوقع أيضا أن يتحدث توين عن بعض من الكتاب المعاصرين له وعن الحركة النقدية في وقته. وفي الحقيقة، تبدو كل هذه الآراء والتعليقات أقل أهمية إذا عرفنا أن توين سيصب هجوما على سياسة التدخل الأمريكي في تغيير الأنظمة العالمية وعلى الحملة المسيحية في مناطق من آسيا وإفريقيا، كما أنه ينتقد بسخرية لاذعة النموذج المسيحي الغربي ويعتبره دمويا وماديا، الأمر الذي اعتبره النقاد بمثابة مجازفة بمكانة الكاتب في الثقافة الأمريكية لو نشر في وقته. هذه الغطرسة الأمريكية أو التحول- كما يراه توين- من أمة كريمة معطاءة إلى أمة أنانية ومادية وظالمة، لن تكون مواضيع من السهل تناولها في حياة مارك توين خاصة عندما يصف الجنود الأمريكيين بأنهم «قتلة يرتدون بزات رسمية»! وهذه الآراء وغيرها مما ينشر للمرة الأولى، ستظهر مارك توين معاصرا، مختلفا ومخالفا، كما يؤكد روبرت هايرست المسؤول عن أرشيف مارك توين في مكتبة جامعة كاليفورنيا في بيركلي. وما ينتظره القراء اليوم هو شيء أكثر من مجرد سيرة ذاتية لرجل عرفه المجتمع الأمريكي، بل رؤية موضوعية لن تخلو من بعض التناقضات والصراعات الداخلية الطافية إلى السطح مترافقة مع نبرة فلسفية حادة تختلف عن النبرة الفكاهية التي عرف بها توين في أعماله الشهيرة؛ مثل: مغامرات توم سوير (1876)، وهكلبيري فن (1884)؛ اللذين يعدان من ركائز الأدب الأمريكي. ومن خلال قراءتي لبعض أجزاء السيرة المنشورة مسبقا، أعلم أن مارك توين من المستحيل أن يتخلى عن سحر أسلوبه الساخر والطريف، لكن هذا الأسلوب سيتوارى في حضور نبرة الغضب التي كتب بها الكثير من أجزاء السيرة، كما أن التسلسل التاريخي الذي سيخرج به العمل يتعارض مع فلسفة مارك توين ورؤيته، لكن هذا الترتيب سيكون مسؤولا عن تحول العمل من الصبغة الأدبية إلى الروح الفلسفية والتحليلية لفترة 80 عاما من الصخب والكتابة. والجدير بالذكر أن الكثير من الآراء مثار الجدل لن تخرج في الجزء الأول من السيرة، بل في الجزأين الثاني والثالث اللذين لم يعلن عن تاريخ صدورهما بعد. والخلاصة أن توين راهن على مرونة وتسامح القارئ الأمريكي اليوم في تقبله ونقاشه لهذه الآراء فهل يكسب الرهان أو يخسر جماهيريته الطاغية؟ .