السجال على مستوى الخطاب الديني على أشده هذه الأيام يرافقه كثير من اللقاءات الصحفية والتليفزيونية لتبرير فتوى هنا أو معارضة أخرى هناك حتى أخذت هذه الفتاوى بعدا أكبر على مستوى التلقي، واكتشفنا أن هناك الكثير من القنوات الإعلامية العالمية متابعة جيدة لما يثار. قد يكون الخطاب الديني يعيش فترة مخاض صعبة، إلا أنه وباستثناء فتاوى التكفير التحريضية يعيش حراكا غير مسبوق من حيث جرأة الطرح، فهناك أسئلة جديدة وأخرى قديمة تعاود الظهور لتبحث عن إجابات جديدة بعد أن رضخت لعقود للإجابات ذاتها أو للصمت نفسه، سواء كان ذلك باتفاق ضمني أو صريح يرجعها لتفسيرات واجتهادات حرفية سابقة دون أي محاولة فردية للاجتهاد أو حتى للأخذ برأي آخر قد يكون معتبرا شرعا، ولكنه يبقى مثار شك فقط لقدومه من خارج الجماعة وخصوصيتها. ومع كل ذلك يبقى بإمكاننا رؤية هذا السجال بكثير من الإيجابية لأن إثارة الأسئلة بحد ذاتها محرك مهم لاستخلاص الأجوبة وتنوعها والتي قد تكون نتيجتها المبدئية غير منطقية، كما حصل في فتوى إرضاع الكبير التي انتزعت من سياقها التاريخي ومن حادثتها المخصوصة من أجل إسقاطها على زماننا الحاضر، وهذا أمر يستحق العناية ليس من أجل السخرية من الشخص ذاته ولكن لمراجعة المنهجية الشرعية التي جعلت من ظهور فتوى كهذه الفتوى وغيرها ما يزال ممكنا حتى الآن. أمر آخر يستحق البحث هو مسألة التلقي، فبعد أعوام من التكرار والتقليد نجد أن نفسية المتلقي وذهنيته المقولبة أصبحت جزءا من جمود هذا الخطاب، بل أصبح هذا المتلقي أشد الرافضين لأي فتوى مخالفة للسائد حتى لو كان فيها تيسير وتأصيل لأنه يفضل التحوط بأخذ أشد الآراء مادامت مألوفة مع علم البعض مسبقا بأنه لن يقلع عن ذنبه وأن شعوره بالذنب سيتواصل. وهذا من شأنه أن يصل إلى أسوأ النتائج النفسية والفكرية التي تنجم عن خطاب يرتكز على الثقة المطلقة بالأشخاص دون أن يعلم أفراده كيف يصطادون سمك المعرفة فكريا بل ويحثهم فقط على استهلاكه عاطفيا. هذا التلقين أمره معلوم في عهود سابقة مغلقة على ذاتها تشكو من فجوة كبيرة بين العلماء والعوام الأميين المشغولين بزراعتهم ورعيهم، لكنه غير مقبول في أزمنة وفرة المعلومات والمتعلمين، لتبقى حجة أخرى قديمة جديدة وهي أننا نعيش في زمان جاهل أخلاقيا رغم علمه الظاهر، ولكن هذه أيضا حجة ينفيها التاريخ على لسان شاعر المعرة العباسي في أزهى عصور المسلمين: وهكذا كان أهل الأرض مذ فُطروا / فلا يظن جهول أنهم فسدوا. تركي التركي