قد يبدو الحديث الآن عن وطنية المهن اليدوية قبل الطفرة البترولية التي حدثت في المملكة في السبعينيات الميلادية ، وعظاً للشباب الذين أصبحوا يأنفون من تلك المهن ، أو تمدُّحاً وافتخاراً من الآباء بكفاحهم والزراية بترف أبنائهم وغرقهم في النعيم ، أو هي نزعة الحنين إلى ماضي الشباب والطفولة التي يشعر الإنسان بها كلما تقدم به العمر. ولكن ذلك الحديث وراء ذلك كله ، يحمل منطقاً نقدياً موجَّهاً إلى الأسباب التي أفقدت الإنسان حسه بالوجود الحقيقي وشعوره بالامتلاك له ؛ لأنه لم يعد يمتلك عملاً منتجاً يحقق به ذاته. وقد يبدو اختزال تلك الأسباب في العامل الاقتصادي هو الأظهر صوتاً ، واختزال العامل الاقتصادي -بدوره- في الثروة المادية الناتجة عن البترول ، هو ما يغلب على مفهوم العامل الاقتصادي في سياقنا التاريخي. فنقول إن الناس أصبحوا يمتلكون أموالاً يشترون بها ما يشاءون ، ويستقدمون العمال من الخارج لخدمتهم وإنتاج ما يحتاجونه. وإذا كانت المادة لا تتحرك بذاتها ولا تعي وإنما الإنسان هو من يحركها ويديرها ويفيد منها أو يتضرر بها ، فليس لنا أن نقول إن الأسباب التي تستحيل المقارنة بالماضي إلى نقد لها هي أسباب مادية ، وإنما هي أسباب قائمة في الوعي الإنساني وما ينتجه من أنظمة وإدارة وتصورات وقيم في تفاعله مع هذه المادة. فهو نقد -إذاً- للوعي لا للمادة التي لا يسوغ توجيه النقد إليها لأنها لا تعي ، وما دام أنه نقد فهو يترامى إلى الفهم والإصلاح. في مقال الأستاذ عبدالعزيز الخضر المنشور في الشرق 3/11/2012م ، بعنوان (المهمل في تحولات العمل السعودية) فَهْم -فيما بدا لي- لكل حديث عن توطين الوظائف اليدوية ، أو أسف على الزمن الذي كان السعودي فيه يشمِّر عن ساعديه ، سمكرياً أو ميكانيكياً أو نجاراً أو قصاباً...إلخ من زاوية الوعظ المجاني للشباب أو تأنيبهم ، ولا جدوى -في رأيه الذي أشاركه فيه- من النصائح المفصَّلة على مقاس مراهق عاطل أو مجتمع هلامي في الذهن لإرشاده إلى ما يجب أن يفعل. ويرى أن الحديث من هذه الزاوية يهمل الوضع الاقتصادي الذي يصنع منظومة تفرض شروطها على الجميع . وما أفهمه أنا من لجاجة الصحافة وارتفاع عقيرة النواح على الماضي والفخر بمصاعبه ، هو منطق النقد للوعي الذي تحكَّم بالثروة البترولية وأفضى إلى البطالة الصريحة والمقنَّعة. فكأن الأستاذ الخضر يفهم الوضع الاقتصادي بمنطق مادي خالص ، أي بمعزل عن الوعي الذي يتفاعل معه ويسعى إلى تسخيره والتحكم فيه ، وكأن علينا أن ننتظر تبدل العامل الاقتصادي بالمعنى المادي الذي يفهمه به ، وهو في حالتنا تقلص الثروة المادية الريعية ، لتعود إلى المهن اليدوية شرعيتها في الواقع وفي القيم الاجتماعية الحاكمة له. ولست أدري كيف يمكن أن نصنف منهجياً منطق الأستاذ الخضر هذا ، من زاوية المثالية أو من زاوية الواقعية المادية؟! فهو على الرغم من استشهاده بماركس حول قيمة قوة العمل ، لا يجاوز ما أسماه ماركس محذراً منه : (الوعي الزائف)!