لا شكّ أنَّ الكثيرين من الجهلة والعامّة يعيب اختلاف العلماء والفقهاء في بعض المسائل ، ويسقط أحيانَا بعض المسبّة في حقهم. وكما يُقال : (اختلاف الفقهاء رحمة) ، وهي مقولة تصحّ أن تُقال في كلِّ زمانٍ ومكانٍ ، ويُصحّ أيضًا أن تُفهم هكذا دون تأويل أو تصحيح. إنَّ جمهور الأمّة من السّلف والخلف قد فهم ماهيّة الاختلاف كحقيقة مسلّمة لاشية فيها. إنَّ عَالِمًا من علماء الأمّة ، وفقيهًا من فقهائها من زمن التّابعين ، وهو الإمام القاسم بن محمّد ، يقول : (لقد نفع الله باختلاف أصحاب النّبي صلّى الله عليه وسلّم في أعمالهم ، لا يعمل العامل بعمل رجل منهم إلاّ رأى أنَّه في سعة ، ورأى أنّه خير منه قد عمله). هذه واحدة ؛ أمّا الثّانية فنقرأها في قول عمر بن عبدالعزيز -رضي الله عنه- : (ما أحبّ أن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يختلفوا ؛ لأنَّه لو كان قولاً واحدًا كان النّاس في ضيق ، وإنّهم أئمّة يُقْتدى بهم. فلو أخذ رجل بقول أحدهم كان سعة). أمّا الثّالثة ؛ فنتكئ عليها بقول العلامّة الدهلوي -رحمه الله- ، وهو يوضح كينونة الاختلافات الفقهيّة ، حيث يقول : (إنّ أكثر صور الاختلاف بين الفقهاء لاسيما في المسائل التي ظهر فيها أقوال الصحابة في الجانبين ، كتكبيرات التّشريق ، وتكبيرات العيدين ، ونكاح المحرم ، وتشهد ابن عباس ، وابن مسعود ، والإخفاء بالبسملة ، وبآمين ، والإشفاع والإيتار في الإِقامة ونحو ذلك ، وإنّما هو ترجيح أحد القولين). هنا يجب التأكيد على أنّ السّلف لا يختلفون في أصل المشروعيّة ؛ وإنّما كان خلافهم في أَوْلَى الأمرين ، بل وصل الحال ببعضهم إلى القول : (إن الصحابة مختلفون ، وأنهم جميعًا على الهدى ، ولذلك لم يزل العلماء يجوزون فتاوى المفتين في المسائل الاجتهادية ، ويسلمون قضاء القضاة ، ويعملون في بعض الأحيان بخلاف مذهبهم). فإذا كنّا في طور الاختلاف فهاكم بعض ما وقع فيه فيما يمس بعض المسائل الحساسة : - (ميراث الجد) ، فقد ذهب ابن عباس -رضي الله عنه- إلى أن الجد يحجب الإخوة أيًّا كانوا ؛ كالأب من الميراث لإطلاقه لفظة الأب عليه من القرآن. وذهب آخرون كعمر ، وعلي ، وزيد -رضي الله عنهم- إلى أن الإخوة الأشقاء ، أو لأب يقاسمون الجد في الميراث نظرًا لاتحاد وجهتهم. - (خروج المرأة المطلقة من عدتها) ، حيث وقع الاختلاف ، فهذ ابن مسعود -رضي الله عنهما- يقول : (لا تخرج المرأة من العدة إلاّ إذا اغتسلت من الحيضة الثالثة) ، وقال آخرون كزيد -رضي الله عنه- : (تخرج من العدة بمجرد دخولها في الحيضة الثالثة). - (عدة الحامل المتوفى عنها زوجها) فقد قال عمر وابن مسعود -رضي الله عنهم- : (تعتد بوضع الحمل) ، وقال علي وابن عباس -رضي الله عنهم- : (تعتد بأبعد الأجلين). وهكذا توالى الاختلاف في الأحكام في زمن الصحابة -رضوان الله عليهم- ، حتى امتدّ إلى تابعيهم ، واتّسع نطاقه في زمن التابعين وتابعيهم ، تبعًا لكثرة الحوادث الجديدة ، والمسائل المستحدثة التي تحتاج إلى بيان الحكم فيها من جهة ، وتبعًا لانتشار الفقه الفرضي من جهة أخرى. فكان اتساع الاختلاف في الأحكام الشرعية أمرًا واقعًا ، اقتضته طبيعة الحياة العلمية والعملية. فهل يفهم الجهلة والدّهماء ماهية الاختلاف ، وأنّه رحمة من الله وسعة؟!