حيرني خبر فني ثقافي ، مر خلال الأسابيع الماضية مرور الكرام ، ولا أحد يظن بي سوءاً ، ويعتقد أني أقصد خبرا آخر ، صنفنا بأننا من أسعد شعوب الأرض ، وفحوى الخبر المعني ، كما جاء في العناوين الصحفية ، هو عودة الموسيقى إلى الرياض بعد أكثر من عقدين من الزمن ، يا إلهي! ، وجاءت العودة المباركة كما في تفاصيل الخبر أن الدكتور الموسيقار - عدنان خوج الملحن المعروف ، أحيى أمسية ثقافية فنية في الذكرى الثانية عشر لرحيل الفنان طلال مداح رحمه الله ، وسط حضور جماهيري متواضع لا يتجاوز 160 شخص ، حضروا على مسرح مركز الملك فهد الثقافي الفخم ، المبني الذي يعد واحد من معالم المدينة ، وبني على أحدث مواصفات التقنية الحديثة ، ويشار إليه كأحد ثلاثة مبان في العالم يدار بالطاقة الشمسية ، وأقيمت الأمسية وسط حضور أمني كثيف ، وتأتي مبادرة الدكتور خوج كونه قد حاز على درجة دكتوراه ، منحت للملحن السعودي من جامعة (السربون) الفرنسية مع مرتبة الشرف العالي في فن الراحل الكبير - طلال مداح ، وهي الأطروحة التي تقدم بها لجامعة القاهرة ، ورفضت من قبلهم ، وطلب منه تغيير عنوان الرسالة إلى أحد الفنانين في مصر ، وإذا أراد أن تكون عن طلال مداح ، فيجب أن تُقدم لإحدى الجامعات السعودية... وصراحة ، تملكتني الدهشة ، فبداية باغتني السؤال ، كيف تغيب الموسيقي عن مدينة معاصرة عقدين من الزمن ، يشكل الشباب فيها شريحة واسعة من سكانها ، وهم الآن من يملك مفاتيح التقنية الحديثة ، ويستطيعون تجاوز الحواجز ورؤية المستقبل وقراءاته من دون وصايا؟ ، والقصد من الغياب ، هو غياب حفلات فنية غنائية عن مدينة يسكنها الملايين ، كانت تقام فيها حفلات فنية في الأندية الرياضية ، حينما تفوز أنديتها بالبطولات ، وتحتفي بفرح فرقها ، وشهد مسرح حديقة الفوطة التابع لجمعية الثقافة والفنون ، حفلات فنية متنوعة لمغنيين وطنيين وعرب ، يحضرها الناس وتسقط من القائمة والذاكرة ، حفلات الغناء في القصور والمزارع الخاصة ، فهي بطبيعة الحال خارج حسابات الحفلات الشعبية المفتوحة ، حفلات المغنين يأتون إليها بطائرات خاصة ، ويحضرها فقط من أوتي حظاً عظيماً ، وخارج قائمة حفلات الجنادرية الفلكلورية ، الآتية في سياق تقديم عروض التراث الفني وإحيائه ، تؤديها الفرق الشعبية المتنوعة لمناطق المملكة ، وأيضاً لا يمكن أن ندرج في القائمة حفل الافتتاح وأداء (الأوبريت) الوطني ، كحدث يمثل سياسة إدارة المهرجان ، ولا يمكن التطاول عليه لكائن من كان ، كما حدث في أحداث ثقافية وفنية كثيرة تعرفها مدينة الرياض ، قد تكون مجتمعة السبب الرئيسي في غياب الموسيقى والفرح المبهج عن جوهرة الصحراء ، وإذا صح الخبر ، وهو صحيح حتما ، فلتنافس مدينة حرمت من الموسيقي المبهجة أن تعبر شرايينها خلال عقدين من الزمان ، يحق للرياض بهذه الفترة الطويلة ، تدخل في قائمة (جنيس) للأرقام القياسية. الفنان الكبير طلال مداح ، صوت الأرض الذي شكل فينا ذاكرة فنية ، وحالة وجدانية وينابيع صافية لأجيال ، تربت على صوت بلبل الجزيرة وقيثارتها الأصيلة ، تسمع منه - وردك يا زارع الورد - يا صاحبي - مقادير - أنا راجع - مظلوم - واليوم يمكن تقولي يا نفس أنك سعيدة - ومئات غيرها من أغاني الشجن الجميل ، ورحل رحمه الله واقفاً على خشبة المسرح ، ولا يحتاج إلى إفاضة للحديث عن قيمة فنه العالية ، وستتجدد الأسئلة حول ما حدث في محاضرة الدكتور - عدنان ، والغياب الجماهيري المتواضع والحضور الأمني الكثيف ، فالفنان الراحل الكبير الذي منحت جامعة عالمية عريقة درجة الدكتوراه حول فنه ، شكل غيابه وموته رحمه الله ، واحدة من القضايا التي تناولها المجتمع ، وجعلها في مصاف القضايا التي يختلف عليها ، وصنف المتحاورون في حينه ما بين متنور وظلامي ، وهي إشكالية لقضايا وهمية حتى لو تضخمت ونمتّ ، فكانت في وزن قضية قيادة المرأة للسيارة ، ومشاركة المرأة السعودية في الأولمبياد ، والمشاركة في فعاليات معرض الكتاب ، وجعل الملتقيات الثقافية مواسم للصراع المجتمعي ، تبقى في غياب المنهجية العلمية لحركة المجتمع مع الشعور العميق بوجع الشرائح المتنوعة ، مجرد قضايا هزلية لكوميديا سوداء! جامعة القاهرة ترفض أن يكون فنّ الفنان الذي طالما غرد على مسارحها ، وجلب الملايين لخزينة دخلها القومي ، عنواناً وموضوعاً لرسالة علمية وأكاديمية ، وتريد أن تكون هذه الدراسة العلمية عن الفن المصري ، ومعهم حق من وجهة نظري ، وكأن ينقص مصر دراسات علمية وأكاديمية في كل أجناس الفنون ، مصر بما لها من وزن ثقافي وفني وحراك مجتمعي ، وتأمل المقارنة بالعدد الضئيل الذي حضر الأمسية 160 شخص ، وسط حضور أمني كثيف ، مما يعني توقعّ شيء من الخوف ، فتحضر التساؤلات كالتي ُطرحت في حوار الدكتور عبد الله الغذامي الذي يرى غياب (الهوية) الليبرالية ، والدكتور عبد الرحمن الحبيب الذي يرى كواحد من هؤلاء الليبراليين والتنويريين ، أن من روج مصطلح الليبرالية هو الطرف الآخر ، والتيارات الليبرالية أطياف عديدة تنويريين يحملون هماً إصلاحياً هو المهم ، فتسلطن وتغطى دلالة فاعلية الخوف ، وتأويل الغياب في مسرح مركز الملك فهد الثقافي ، وتطرح أسئلة الغياب المرة والحادة .. لماذا مدينة الرياض؟ ممكن أن يكون السؤال بريئاً ، تعود بي الذاكرة وحديث الذكريات ، تأخذنني مع الرائد وشيخي رحمه الله الأستاذ - عبد الكريم الجهيمان ، وكان يروي محطات من عمره بداية القرن الماضي ، وكان طالباً للعلم في مكةالمكرمة ، فيذكر أنه إذا مر وسمع صوت الموسيقى والغناء ، يصدر من نوافذه تلك البيوت المكية ، كان يضع أصبعيه في أذنيه لئلا يسمع الغناء ، وحينما لاحظ الدهشة مرتسمة على وجهي ، فقال ساخراً ومهوناً: لا تستغرب التشدد والتخلف! ، إذن فهي مسألة تراكم حضاري ، إذا حضرت ثنائية الغياب والصراع الهزلي ، وإثارة الأسئلة دائما حول منشطها الفكري الثقافي والفني ، ولأن الموسيقى غذاء للروح كالخبز غذاء للبطون ، سأنقل حيرتي ودهشتي وأسئلتي الصامتة ، لتجلية معطي حوار الثنائية الهزلي ، ومعنى غيابها عن قضايا ليست في وعيها الحاضر الغائب ، وتناول السائد والبائد من القضايا الهزلية وبسطها للضوء والإثارة ، يقول (خبر) آخر خارج سياق حوار الثنائية طبعاً ، جاء على خلفية (بيع مساحة من الأراضي السودانية للمملكة للاستثمار الزراعي؟) ، يكشف هزلية حوار مجتمع يعاني في كل مفاصل الحياة ، مجتمع أوغل في حوار حول قضياه الشكلية ، وتغيب المنهجية والشفافية ، وينكشف المستور بالنظر إلى مساحات وأراضٍ شاسعة وخصبة ، تقع على سواحل الوطن شرقاً وغرباً ، ومياه متوفرة وكثافة سكانية لأجيال تعاني من البطالة من العقبة إلى جازان بالذات ، ويمكن لهذا الجزء من الوطن أن يكون سلة لغذاء البطون ، ولكنها الانتقائية العمياء المخلة ، فلا بأس إذن ومن المهم أن أغرد في نهاية السطور (دستور) يا الساحل الغربي ، وأستحضر هنا (الآخر) الفنان محمد عبده لئلا يؤولني من يشتهي ، ويصدر أحكامه القاسية ، ويصفني بطلالي صرفّ لا يرى إلا بعين واحدة!. ** ملاحظة مهمة: أعتذر للصديق المبدع الأستاذ فهد الخليوي وللقارئ الكريم ، لسقوطي في فخ مشكلتي الأزلية في مقال الأسبوع الماضي ، وخلط قائمة الأسماء في الذاكرة ، ولا بد أن القارئ الحصيف يدرك عفوية الخطأ الذي وقعت فيه ، وقد نبهني بداية مشكوراً لخطئي الصديق القاص ساعد الخميسي ..