تقتضي تربية الأبناء منذ الصغر تعويدهم على الصبر والتحكم في نوازع النفس البشرية وضبط حالة الاندفاع في مواقف الضغوط والإغراءات ؛ لاسيما فيما يتعلق بالقرارات المصيرية التي ترسم طريق الناشئ في الحياة. ومما لاشك فيه أن تربية الطفل على مقاومة إغراءات المواقف الوقتية من أجل تحقيق أهداف عليا محددة سلفاً ومؤجلة وقتاً ؛ أمر يتطلّب بذل الجهد والتضحية ببعض الملذات ولو مؤقتاً في سبيل الوصول إلى لذة النجاح الحقيقي والمستوى الاجتماعي المرموق ؛ ولعل مؤشرات وقتنا الحاضر تكشف بما لا يدع مجالاً للشك أنّ جزءاً من أبناء الأمة تكالبت عليها المثبطات والملهيات الخادعة ؛ مما جعلنا نرى جيلاً ضجراً يهجر مقاعد الدراسة عند أول تعثر له ، ويتخلى مهنته ؛ لأنها كما يدَّعي قيّدت حريته التي اعتادها منذ الصغر .. ولعل تربيتنا لأولادنا أسهمت في هذا الجانب ؛ لأنّها لا تُعِدُّ أبناء الجيل لتحمل مصاعب الحياة من أجل تحقيق هدف أسمى وأثمن وهو تقدم الأمة ورفعتها ؛ فأبناؤنا أصبحنا نلبي رغباتهم المضّرة قبل المفيدة ، وبمناسبة ودون مناسبة ؛ مما جعل الناشئ يتوقع أنّ تحقيق ما يريده ويطمح إليه سيأتي في أي وقت ودون أدنى جهد أو عناء فينشأ ناشئ الفتيان فينا=على ما كان عوّده أبوه ومن المعلوم لدى عامة الناس قبل خاصتهم أنّ تحقق عزة الأمة ومنعتها مرتبطٌ بصلاح ناشئتها المتمسكين بثوابتها الدينية وعاداتها الاجتماعية الجميلة التي لا تتنافى مع الدين ؛ المتطلعين إلى تحقيق الأهداف الساميّة مهما طال انتظارها وكابدوا عناء الطريق الذي يقود إلى تحقيقها. ولعلني استشهد في هذا الجانب بنتائج دراسة علمية لعالم النفس والترميشل (walter mischel) الذي أجراها على مجموعة من أطفال دار الحضانة عام 1960م داخل جامعة استانفورد ؛ حيث كان متوسط أعمارهم حينئذٍ 4سنوات ، عندما عرّضهم لموقف تحدٍ ، وهو (أَخْذُ قطعة حلوى واحدة في الحال ، أو أخذ قطعتين بعد انتظار عودته إلى الغرفة مرة أخرى) وذلك لاختبار مصداقية قدرة الطفل على التحكم في عواطفه وتأجيل الإشباع ... وكشفت الملاحظة أن بعض هؤلاء الأطفال استطاعوا الانتظار لمدة تتراوح من 15 إلى 20 دقيقة حتى عودة المجرّب إلى الغرفة مرة أخرى وعندها أخذوا قطعتي حلوى. أمّا البعض الآخر (المندفعين) أخذوا قطعة الحلوى بعد ثوان قليلة من مغادرة المجرب للغرفة ، وقد اتضحت القيمة التشخيصية للحظة الاندفاع هذه بعد مرور 12-14 سنة حين تتبع الباحث هؤلاء الأطفال بعد أن أصبحوا مراهقين ، حيث كانت الفروق مذهلة بين الذين استطاعوا تأجيل الإشباع ، وأولئك المندفعين في الجوانب الاجتماعية والانفعالية. فالذين قاوموا الإغراء في سن الرابعة أصبحوا مراهقين أكثر كفاءة اجتماعية وأكثر فاعلية وأكثر قدرة على مواجهة إحباطات الحياة ؛ لأنهم أكثر مقاومة للانهيار وأكثر مقاومة للتشويش حين يتعرّضون لضغوط ، ويتقبَّلون التحدي ؛ بل ويسعون له بدلاً من التسليم في مواجهة الصعاب. كما أنهم يعتمدون على أنفسهم ويثقون بها ؛ فأصبحوا موضع ثقة الآخرين ، ويُعتمدُ عليهم ، إلى جانب اتصافهم بالمبادأة والقدرة على تأجيل الإشباع من أجل تحقيق أهدافهم المحددة سلفاً. أما الذين انقضوا على الحلوى (المندفعين) وكانوا حوالي ثلث الأطفال ؛ فكانت هذه الخصائص أقل ظهوراً لديهم ؛ إذ كان من السهل أن ينزعجوا في مواجهة الإحباط ، إلى جانب مبالغتهم في استجاباتهم للمواقف (حِدة المزاج) ؛ مما يعرّضهم للجدل والشجار وبالرغم من مرور كل هذه السنوات ؛ فإنهم لم يستطيعوا تأجيل الإشباع ومقاومة الاندفاع ... فهل نجعل تربيتنا لأولادنا متوازنة ؛ لكي تقودهم إلى مرفأ وما نيل المطالب بالتمني=ولكن تُؤخذ الدنيا غِلابَا آمل ذلك وكل عام وشبابنا بألف خير. ----------- - فرعة غامد الزناد