بعد سنوات من السجن والجَلد ، وفوق ذلك كله الشعور بمرارة الظلم في عقوبة على جريمة لم تُرتكب ، وليس لهم منها إلاّ التُّهمة والحكم فقط، ينزل الخبر: أنتم أبرياء ، وهم أبرياء. تلك هي حال الأربعة في جازان -حسب صحيفة الوطن أمس- بعد أن كشف ضابط تحريات -برتبة ملازم- الجناة الحقيقيين ، الذين يسرحون ويمرحون ، بل ويدخلون البلاد ويخرجون منها ، ومنهم مَن يعمل في إحدى المؤسسات الوطنية. حروفي هنا لا تعدو أن تكون صدى المأساة على أرض الواقع ، وليس في جازان فحسب ، بل هناك أخرى في جدة -كما روى لي- ذات يوم مسؤول أمني رفيع ، حيث هرب الفاعل إلى بلاده ، واقتيد أربعة أبرياء ، ونالوا العقاب على جريمته. في جامعة شيكاغو قام أحد أساتذة الجامعة مع طلابه ببحث في جرائم ومتّهمين بشأنها على مدى سنوات ، وتبيّن من نتائج البحث أن نسبة كبيرة من المتهمين كانوا في الواقع أبرياء ، ومنهم مَن نال الجزاء إعدامًا ، ومنهم من مات متّهمًا بجرم لم يرتكبه. (رونالد هوف) وزملاؤه في استبيان ضمنوه كتابهم الصادر عام 1996 (مدانون لكنهم أبرياء) شمل (188) قاضيًا ومحاميًا وناشطًا عامًّا وعُمْدة ورجل شرطة ، توصل الباحثون إلى أن هناك عشرة آلاف شخص تقريبًا يدانون سنويًّا في الولاياتالمتحدة بينما هم في الحقيقة أبرياء ، والعامل الرئيس في ذلك هم الشهود الذين يخلطون كثيرًا في الأوصاف والتعرُف. جوهر هذا كله ينصب على التحريات والأدلة ، والتعجل أحيانًا في الوصول إلى التجريم ، لأن هذا هو بداية الاتجاه الخاطئ في تلبيس جريمة على بريء ، وارتكاب جريمة نتيجة تحقيق غير سليم ، لا لسوء نية ، بل لسوء أسلوب ، وممّا يجدر ذكره هنا أن استخدام الحمض النووي ابتداءً من عام 1992م أفاد كثيرين. لي صديق أكاديمي أوقعته مشاجرة مرورية في تهمة جريمة قتل ، حيث أدّى التشاجر إلى سقوط زميله المصاب بعدة أمراض ، وتوفي بعد ستة أيام ، لكن أنقذ الصديق من القصاص تحفّظ أحد القضاة الثلاثة على الحكم. كانت خلاصة تجربته أن المتّهم والمحقق في سباق إلى إغلاق ملف الجريمة ، يسعى المتهم إلى نفي التهمة ، ويسعى المحقق إلى إغلاق الملف ، ويرى الصديق ضرورة أن يكون هناك محامٍ يتولى الموضوع كاملاً. الملازم الذي وردت الإشارة إليه في الخبر نموذج لرجل التحريات الشريف الذي يضع الأمانة نصب عينيه ، والحالة هذه نموذج لحالات غير قليلة تؤكد على ضرورة سلامة التحقيق من أي لَبس في التجريم ، كي لا يفتح الباب لمجرمين في مواصلة الإجرام ، بينما يدفع الأبرياء الثمن ، وهناك مثلهم الموقوفون بدون تُهم ، أو إدانة ممّن سنّ المغرب لهم قانونًا أسماه (قانون الأبرياء) ، أو (قانون الحريات) الصادر في 18 يوليو 2009م.