تختلف الأحكام حول مفهوم النفاق .. بعضهم يراه (ضرورياً) في كل زمان ، ومكان ، وبدونه تتعطّل الحياة .. وبعضهم يراه (مُدمّراً) لقيم المجتمع ، واستقراره ، وازدهاره ، وبوجوده تنهار هذه القيم ، ويتدمّر المجتمع ، وتغيب عنهم الطمأنينة ، وبدونه يزدهر المجتمع ، ويتقدم نحو الأمام . قال المدرس موجهاً حديثه لمدير المدرسة: (أنا عشان عيونك حبيت الدراسة والتدريس) . وحاول مدرس آخر ، كان يقف بجواره ، تنبيهه لخطأ العبارة فالمدرس لم يكن يعرف الغيب ، وأن تعيينه بعد التخرج سيكون في هذه المدرسة ، وتحت إشراف هذا المدير بالذات ، لكن المدرس صاحب العبارة لم يتراجع ، ومضى يؤكد للمدير أنه كان وراء عشقه لمهنة التدريس (رغم أن هناك ما يقرب من عشرين عاماً تفصل بين تخرج المدير وتخرج المدرس ، وأن المدير التحق بمهنة التدريس بينما كان المدرس ما يزال طفلاً) !. وأصر المدرس الآخر على موقفه في تنبيه زميله لخطورة هذا (النفاق الأبيض) فلاحقه لغرفة المدرسين ، ودار بين الاثنين الحوار التالي: لن يحترمك المدير إذا مضيت في هذا الأسلوب المكشوف . أنا لا يهمني أن يحترمني ، يهمني أن تكون حصصي اليومية مناسبة لظروفي ، وأن لا يلزمني بأعمال أخرى، وأن يساعدني عندما أطلب ذلك. هل ترى هذا النفاق وسيلة لتحقيق مطالبك؟ بالتأكيد، وهذا النوع من النفاق ليس فيه ضرر بالغير ، وإذا اعتقدت أن المدير يكره ، هو أو غيره ، هذه الأساليب فأنت مخطئ ، هل لو رأيت نقطة سوداء في ملابس المدير تستطيع أن تنبهه لها أمام عدد من الحاضرين ؟ لن تفعل .. ولو فعلت فإن المدير سيغضب منك، وغضبه سيقودك ، ويجرك لحالات نفسية أنت في غنى عنها ! معنى ذلك أن علينا الاهتمام بمبادئ (النفاق الأبيض) لنحمي أنفسنا من (اليوم الأسود) ! تماماً إذا لم يكن ذلك مضراً بالغير ، أو فيه إساءة للغير ، النفاق الأبيض نوع من أنواع (الود الظاهر) الذي يختلف عن (الود الباطن) ومهما أسرفت في إبداء (الود الظاهر) فإن هذا لن يضرك ، وعلى العكس سيفيدك عاجلاً ، أو آجلاً .. ومن هنا قالت العرب مثلها المشهور (لسانك حصانك ، إن صنته صانك ، وإن خنته خانك) ..! هذه هي فلسفة (النفاق الأبيض) عندك ..! نعم .. جربها .. جرب (الود الظاهر) وإذا صادفتك المتاعب فأنا في الخدمة ، ورهن الإشارة ! ماذا تقول في هذه الحكاية (سأل الخليفة المتوكل أبا العيناء وكان ضريراً: أعلمت أمراً أشد عليك من فقد عينيك فقال: فقدي لرؤيتك) . إنك لن تستطيع أن تقول عن أبي العيناء إنه صادق ففقده لعينيه لا يقارن بعدم رؤيته للمتوكل ، لكن سرعة البديهة ، أو الود الظاهر ، أو النفاق الأبيض جعله يرد بهذه الإجابة الذكية التي لن تقنع المتوكل ولكنها أرضته ، وأسعدته ، وجعلته يغدق على أبي العيناء الذي استطاع بدوره أن ينتصر على (مأساته) ويقترب من قلب الخليفة ! ولم يقتنع المدرس الآخر بمنطق زميله ، وبفلسفته في (النفاق الأبيض من أجل اليوم الأسود أو استخدام (الود الظاهر دفاعاً عن الود الباطن) .. ربما لأنه لم يجربهما ، وربما لأنه لا يجيدهما ، وربما لأنه لا يستسيغهما ، وربما لأنه لا يحتاجهما من الأساس ، وما زال يحاول إقناع زميله بخطأ العبارة الأولى ، وما زال زميله يدافع عن وجهة نظره في إلقاء العبارة ، وحسن وقعها في نفس المدير بعيداً عن صحة معناها ، أو صحة مبناها ، ولم يستسلم أحدهما لموقف الآخر ، ولم يعترف أحدهما بسلامة موقف الآخر ، وإذا أتيح لطرف ثالث أن يتدخل فإنه لن يستطيع أن يفصل في الصراع الدائر بين الطرفين لوجاهة موقف صاحب العبارة ، ولصراحة وصدق المدرس الآخر الذي أراد تصحيح العبارة لتبدو قريبة من الواقع فناله من زميله ما ناله من دروس في النفاق الأبيض ، والود الظاهر ، وحكاية أبي العيناء أمام الخليفة المتوكل ، والنقطة السوداء في ملابس المدير ، وكيف يصعب لفت نظره إليها إذا كان ذلك أمام عدد من الحاضرين !.