من المؤسف حقًّا أنّ هناك مساحة حاضرة من (الغواية) تحاول أنْ تعصف برشد المؤلّفة من النّاس ؛ سعيًا لتقويض دعائم وطنهم ، وتهدد كيانه ، وتَنْخر في ممتلكاته . وإنّ الدّعوات إلى المظاهرات ، والاعتصامات ، ونشر البيانات كالتي حدثت ولا تزال رحاها تدور في بعض البلدان ، لتدفع بالكيّس الفَطِن إلى أخذ الاعتبار ، وتفطّن العبرة بعيدًا عن دوافع العواطف ، وما ينتج عنها من عواقب الاندفاع وشره المستطير الذي يهلك الحرث ، ويبيد النّسل !! إنّ للوطن حقًّا مطاعًا ، وله روحٌ وانتماء ، وله صورةٌ متّسقة تنتظم فيها الملامح والمشاعر والأنساب ، وتَأتلف فيها الرّؤوس مع الأطراف ، كلّ في مكانه العتيد الذي لا يعدوه إلى غيره . إنّ صاحب العقل المحب لوطنه هو الذي يستقرّ في ذهنه صورة الوطن على نحو مبين ، لا عوج فيه ولا التواء . وإنّ اضطراب البصائر ، وفساد الدّواخل مدعاة إلى مَن يعرض عليك الوطن (بخبث) مشوّهًا مشوّشًا ؛ لأنّها لا ترى من الصّورة المشرقة إلاّ ما يُرضي ذلك الاضطراب ، وذانك الفساد حتّى حملت جَهْلاً مطبقًا بروح الانتماء ، وصحّة الولاء ، وقداسة التّراب . إنّ في هذا الوطن الكبير كتابًا حيًّا يُتْلى ، ودرسًا من الدّروس يُلْقى ، لا يعرفه أهله حقّ المعرفة ؛ لأنّ العمى إذا أصاب العيون أغلق عليها مفاتيح العقول ، وصرف عنها لغة الاحتكام إليه ، والتّبصر بهداه . إنّ إنسانَ هذا الوطن أحوج ما يكون إلى التّنقيب في أرجائه شبرًا شبرًا ، بعيدًا عن أيّ مؤثرات أو إسقاطات تَبْعث على اليأس ، أو ترسل الإحباط ، وما يلتفّ في حِراكه من أيادٍ مُغْرضة يكتنفها العبث ، وتسيّرها الفوضى حين يبثها المتطفّلون ، ويجني (خبثها) -لا قدّر الله- الكبير والصّغير . علينا الإقرار بأنّ هناك أخطاء بالجملة ، وعلينا الاعتراف بحزمة من سيول الفساد ، وعلينا -أيضًا- التّأكيد بأنّ هناك جيلاً شابًا قادمًا لا ينازعه في مستقبله إلاّ معاند ، أو مكابر ، أو صاحب هوى . كلّ ذلك حقٌ وصدقٌ يقرّ به المسؤول الكبير قبل الجاهل والمغرور , وذلك الإقرار والاعتراف مدعاة إلى تدافع حركة الإصلاح التي تبنها خادم الحرمين الشريفين -حفظه الله وعافاه- فهو يدفع بها دفعًا ؛ سعيًا نحو بناء وطن قوامه الاستقرار ، وميزانه العدل . إنّ الكيان الوطنيّ الذي نستظل به قلّما يبقى متماسك اللّبنات مع حِدة الاحتكاك بصنوف من مروجيّ (الفتنة) ودُعاة (الفوضى) ، ففي أحضانها تُولد آلاف الرّذائل ، وتَخْتَمر في حوضها مجموعة من الجرائم ، ولات ساعة مندم ! فإذا تركنا الوطن الذي نحبّه لعوامل الفوضى والفتنة ، ومن يدعو إليها لتنال منه فهي آتية عليه ، وعندئذٍ تنفرط عقوده كما تنفرط حبّات العقد إذا انقطع مأمنه ، حتّى يصبح في يد العابثين فُرطا ؛ وحاشاه من ذلك كلّه وفيه المخلص والمحب والمصلح . إنّ الوطن ينبغي أن يُفهم على أنّه كالنّفس البشريّة لا غنى فيها عن عضو أو خليّة إذا تقطّعت أواصرها ، ولم يعد يربطها نظام ينسّق شؤونها ، ويرْكز قواعدها حتّى تصبح مشاعرها وأفكارها وعواطفها كالحبّات المنفرطة السائبة، لا خير فيها ولا حركة . وختم القول علينا إمعان النظّر في قول شيخ الإسلام ابن تيمية : (الفوضى في ساعة يحدث فيها ما لا يحدث في استبداد سنة) .