كثيرًا ما يردّد النابهون بأنّ هناك حلقة مفرغة ندور فيها ، وحولها في كثير ممّا يصدر عنّا من أفكار أو رؤى ، حتّى استهوت تلك الحلقة ثلّة ليست بالقليلة من الكسالى ، وتبعهم ثلّة أخرى ممّن نحسبهم في عداد العقلاء ، فأصبح الجميع بفعل ذلك الكسل مستلبين ومستكنين!! وتلك الحلقة باتت أشبه بوصيّة من الوصايا القمينة بالحفظ والصّون ، فلا يطالها التّغيّير أو التّبديل ؛ فأصبنا الغيّ ، وتدثرنا التبلّد حتّى استغرق منّا قوانا الفكريّة والعقليّة ، وبات الواحد لا يخرج منه حتّى يرتدّ إليه. حسنًا: الأقلامُ كما هي منذ أنْ بدأت ترسل الحروف على بساطها الأبيض .. لم تتغير!!. والمداد ذاته يسيل بكم وافر من الإعادة والاجترار ، حتّى وصلنا حدّ التّخمة فأصابنا الغثيان!! والأفكار كما العهد ، فلا تخرج من رأسٍ حتّى تدخل إلى آخر لا يحسن المفاضلة ، أو التّرجيح ، أو الاحتجاج ، أو التّفنيد ، أو التّصحيح!!. لقد بات الواحد منا يؤمن إيمانًا لا شك فيه ولا ريبة أنَّ تلك الحلقات المفرغة التي ندور فيها لا سبيل إلى الانفكاك منها ، فنحن ندور فيها دون أن تهدأ فينا نشوة الدوران ، أو تسكن فينا محبة الاجترار. إنّ هذه الحلقات المستحكمة أخذت منّا ما تبقّى من عقولنا وأفكارنا ، فلم يعد هناك متّسع لجَلَد أو صبر يعيننا على تحمّل ذلك، فأصبحنا بفعل التّرهل الفكري المشين ، والإعادة المتبلّدة في قمّة الإبداع الفكريّ ؛ زعمًا باطلاً بغير دليل مشهود أو برهان بيّن .. فأيّ عمىً نسكنه ، وأيّ غشاوة نحن فيها؟! لقد اعتقد البعض حدّ الإيمان الصادق أنّ السلف لم يترك للخلف شيئًا، وهذا لعمري قمة البلادة ، وذروة الخنوع المتربّص بالكثير من مرددي العبارة السابقة التي هي في الأصل (حيلة ساذجة) قالها أحدهم وهو في حالة من (الاستكانة والضّعف) ، حتّى بلغ به الحال حدًا كبيرًا من (البلاهة) ، و(القبح) الفكري! لقد أضحى الكثير من (البلهاء) يرددون حروف تلك المقولة السخيفة كأنّها آية منزلة ، وقد رد عليهم شيخ المعرة في سخرية تُقال لأحدهم حين تموت فيه لغة الإبداع ، وتهيمن عليه سطور الخنوع: (ليس أضرَ على العلم من قول القائل ما ترك الأول للآخر شيئًا) وبمثل قول المعري قال جدنا الجاحظ: (إذا سمعت الرجل يقول: ما ترك الأول للآخر شيئًا ، فاعلم أنَّه لن يفلح)!!. أما كان أجدر بنا ونحن أمّة مأمورة بالعلم أن نرمي عن كواهلنا تلك المقولة البليدة ، ونستعيض عنها بمقولة صاحب كتاب كشف الظنون ، إذ يقول: (واعلم أنَّ نتائج الأفكار لا تقف عند حد ، وتصرفات الأنظار لا تنتهي إلى غاية ، بل لكل عالم ومتعلم منها حظ يحرزه في وقته المقدّر له ، وليس لأحد أن يزاحمه فيه ؛ لأن العالم المعنوي واسع كالبحر الزاخر ، والفيض الإلهي ليس له انقطاع ولا آخر ، والعلوم منح إلهية ، ومواهب صمدانية ، فغير مستبعد أن يدّخر لبعض المتأخرين ما لم يدّخر لكثير من المتقدمين ، فلا تغتر بقول القائل: ما ترك الأول للآخر ، بل القول الصحيح الظاهر: (كم ترك الأول للآخر ؛ فإنما يُستجاد الشيء ويُسترذل لجودته ورداءته في ذاته لا لقدمه وحدوثه).