تعرف الشعوب من أسواقها الشعبية .. تستطيع قراءة واقعها .. وتستنتج الكثير .. ثقافياً .. واقتصادياً .. وبيئياً .. تعرف كيف يفكر الناس .. وكيف يتعاملون .. وتعرف من أنت في هذا الكون الكبير. في سوق الأحد بجلاسجو الاسكتلندية .. عرفت أوروبا بكاملها .. تعرفت على العوامل المشتركة بين الشعوب .. أهمها علاقة السلام والمحبة .. بعيداً عن السياسات الكريهة للحكومات المريضة. جعلوا الناس وقوداً للحروب .. وأدوات للسيطرة .. تجهزهم لحتفهم .. بحجج مصالح الأوطان .. في النهاية لا يملك الأوطان إلا تلك العقول المتسخة بدماء الشعوب .. ذلك الكلام بسبب احد أركان هذا السوق الكبير .. جناح عسكري .. يعرض الملابس العسكرية القديمة .. من الحرب العالمية الثانية .. تستعرض جميع أنواع النياشين .. وجميع أنواع الميداليات والملابس العسكرية .. هذا ما حصل عليه العسكر .. ماتوا بعد قتلهم آلاف البشر. ورثها أبناؤهم .. ليست ذات قيمة .. باعوها في سوق الأحد ب(أبخس) الأثمان .. تتفرج .. لتستنتج أن الحياة أبسط مما يتصوّر الطغاة. حوكم الألمان في جرائم حرب .. أدينوا علانية .. لكن المنتصر لم يحاكم نفسه على جرائمه .. كلهم شركاء في الجريمة .. المنتصر والمهزوم .. كلاهما مجرم .. كان بإمكانهم تلافي الحروب .. لكن قسوة النفس للاستحواذ بالتاريخ .. تخلق سوقاً رائجة .. لقتل الناس دون هوادة. في كل مرة اهبط هذا السوق .. أجدني أمام الركن العسكري .. أتخيل هموماً إنسانية عصفت بشعوب العالم .. كيف يجعل الإنسان أخاه الإنسان في سوق الهزيمة أو النصر ؟!.. البشر ضحية جميع الأطراف المريضة .. أكثر من (50) مليون قتيل في الحرب العالمية الثانية .. أي نصر هذا الذي يدّعون؟! تذكرت صراع الحيوانات من أجل نزوة فحولة مؤقتة .. لابد أن تسود قوة أحدهم .. إخضاع الكل للسيطرة والنفوذ .. ننسى العوامل والروابط الإنسانية .. ننسى الرحمة والصدق والعدل .. لكن هناك نهاية .. معها تتولد بدايات أشياء أخرى. في سوق الأحد تجد جميع أنواع الكتب أمامك .. تجد التحف .. والمنحوتات بكل أصنافها .. تجد التاريخ أمامك .. يباع بكل حذافيره .. أشياء يزيد عمرها على القرن .. تجدها بتراب الفلوس .. أجيال تبيع تراثها من اجل أن تعيش .. هناك من يشتري .. هناك من يتفرج .. وهناك من يتألم مثلي على قسوة التغيير .. لكن الجميع يجدون المتعة في كل ما يشاهدون. في إحدى الزيارات .. لاحظت صحناً نحاسياً .. في إحدى زوايا كومة بضاعة أشبه بالخردة .. كأنه ينادي : أقبل أيها العربي .. ذهبت إليه .. سألت صاحب البضاعة عن ثمن هذا الصحن .. أسعى لفك أسره بأي ثمن. عملت ل(فك) أسره .. كان ثمنه يعادل عشرة ريالات .. سألته هل تعرف ما هو مكتوب على هذا الصحن .. قال : قد تكون كلمة ترحيب .. شريت الصحن فرحاً ومبتهجاً .. كأني لقيت كنزاً ثميناً. كان صحناً عربياً نحاسياً دائرياً جميلاً .. فيه نقش محفور .. يسعد الناظر إليه .. في وسطه تم حفر بعض الكلمات العربية .. صُب في هذا الحفر فضة لامعة .. كانت العبارة تقول : (و إنك لعلى خلق عظيم) .. وبخط جميل. يا لروعة الصحن .. كيف وصل إلى هذا السوق؟! .. على قفاه أرقام تعطي احتمالاً بأنه مسروق من متحف .. أو أن صاحبه كان يجمع التراث .. ما زلت أحتفظ بهذا الصحن .. بعد عودتي ، دفع لي أحدهم الكثير من الأموال .. رفضت .. ربما يبيعه أحفادي في سوق الخميس مستقبلاً ب(أبخس) الأثمان. في هبوط آخر على سوق الأحد الاسكتلندي .. عثرت على شيء من تراثي الشخصي .. عثرت على خنجر عربي .. نسمّيه في منطقة الباحة (قديمية) .. معلق في طرفه ورقة صغيرة تحمل أيضاً أرقاماً .. ربما تكون هي الأخرى ترمز إلى معلومات في سجلات .. هل كانت هي الأخرى مسروقة؟! من خبرتي في هذه الخناجر .. وصفته بالقديم جداً .. تساءلت كم سيكون ثمن هذا الخنجر؟! .. وهل أملك المبلغ؟! .. أخيرا شريته بما يعادل (30) ريالاً .. ما زلت احتفظ بهذا الخنجر .. وقد دفع أحدهم مبلغاً يزيد على (10) آلاف ريال .. رفضت .. قد يجده أحدهم بعد مماتي .. في أحد براميل الزبالة في أحد شوارع البلد. في سوق الأحد .. جلست أحتسي (كوباً) من الشاي .. جلس بجانبي عجوز و(عجوزة) .. ترى تأثير الدهر على هيكل الجسم .. محنيّ إلى الأمام .. لكثرة ما يحمله الرأس من معلومات ومصائب ومشاكل وتجارب حياة. فجأة التفتت (العجوزة) وسلّمت .. سألت : من أي الدنيا أنت؟! .. أجبتها باختصار .. فجأة قالت : قبل أربعة عقود .. اغتصبني ثلاثة عرب .. في بلد عربي .. وذكرت اسم البلد .. انعقد لساني من الصراحة وهول القول .. ويستمر المقال بعنوان آخر.