مما يؤكده الدارسون في مجال (اللغات وعلومها) أنَّ هناك علاقة وطيدة بين اللغة وبين التفكير ، وأنهما متلازمان لا غنى لأحدهما عن الآخر ، وأنَّ قدرة الإنسان اللغوية من أهم عوامل بناء شخصيته ، وأسباب تواصله المؤثر مع الآخرين. وممن يؤكد هذا العمق في العلاقة بين اللغة والفكر (ديكارت) الذي يرى أنَّ اللغة هي التعبير عن الفكر من أجل التواصل مع الآخرين .. ومن علماء اللغة من يرى أنَّ الفكر يبدأ أولاً، وأنَّه يحتاج إلى اللغة حينما يريد صاحب الفكر أنْ ينقل ما لديه إلى الآخرين ، وهنا يختار اللغة التي يريد أنْ ينقل فكره إلى أصحابها .. وهنالك جَدَلٌ طويلٌ بين العلماء في طبيعة العلاقة بين اللغة والفكر ، لا علاقة لنا به لأنَّه جدل طويل ، والجدل إذا تجاوز حدَّه أصبح أثرَه سلبياً ، وصار جدلاً عقيماً (لا يأتي بخير) كما وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم. الذي يهمنا من هذا الموضوع أنَّ الرأي الأقرب إلى الصواب هو أنَّ اللغة والفكر متداخلان ، متشابكان ، وأنَّ أفكار الإنسان تنشأ -في الأصل- داخل لغته الأُم ، وأنَّ استمرار العلاقة الوطيدة بين فكر الإنسان ولغته الأُم من أهم عوامل الانسجام الفكري ، والثبات على المواقف ، والقدرة على الإبداع ، وعلى التأثير القوي في الآخرين ، وعلى التأثر الإيجابي بما عند الآخرين دون انسياق وراء أفكارهم ، ومعتقداتهم .. وممن يؤكد هذه العلاقة الداخلية بين اللغة والفكر (هيغل) الذي يقول : إننا نفكِّر داخل اللغة ، وهنا تصبح اللغة من الأهمية بمكان ، لأنَّها هي التي تمنح الفكرةَ وجودَها الحقيقي الأكثر سموَّاً ومكاناً وثباتاً. وهذا هو الواقع المؤكَّد الذي تعيش فيه اللغة مع الفكر في حياة البشر .. وبعيداً عن تلك الآراء التي تدور بين علماء اللغة في هذا المجال نقول : إنَّ اللغة العربية تتميز بعلاقتها التي لا تنفصم مع القرآن الكريم ، والحديث النبوي الشريف ، وتراث الأمة الإسلامية بمجالاته كلها ، ولهذا كان ارتباطها بالفكر والعقيدة ارتباطاً وثيقاً ، وكانت العناية بها ، وبمناهجها ، وتعليمها ، والدفاع عنها ، والحرص على ربط أهلها بها ، واجباً علينا ، وحقاً لأمتنا لا يصح لنا أنْ نتهاون به. فارتباط العلم بلغة الأمة مهمٌ في دعم إبداع أبنائها وبناتها ، إبداعاً يحقق لهم الرِّيادةَ ، والقدرةَ على الاختراع ، والتخلُّصَ من (الإبداع التقليدي) الذي لا يخرج عن دائرة تقليد الأمم المتقدِّمة في مجالات العلوم العصرية ، والجوانب العلمية المادية. إنَّ علاقة الفارابي ، والبيروني ، وابن سيناء ، وجابر بن حيان ، والخوارزمي ، وغيرهم من العلماء المسلمين الذين كانوا روَّاداً في علوم الطب ، والهندسة ، والكيمياء ، والرياضيات ، وغيرها من العلوم ؛ إنَّ علاقتهم القوية باللغة العربية هي التي حققت لهم هذه الرِّيادة حتى أصبحوا متبوعين في مجالاتهم ، ومتقدِّمين في اختراعاتهم ، ولعل إدراكهم لأهمية هذه العلاقة هو السبب الذي جعلهم يترجمون جميع العلوم التي برزوا فيها إلى اللغة العربية ، ويؤلفون فيها باللغة العربية ، ويعلِّمون الطلاب باللغة العربية .. وفي الكتيِّب الصغير حجماً المهم من حيث طرح التجربة الذي أصدره الدكتور (زهير السباعي) منذ سنوات دليل عملي واقعي على أهمية اللغة الأُمِّ في تعليم جميع العلوم باللغة العربية إذا كانت الأمَّةُ حريصةً على الإبداع والرِّيادة ، فالدكتور زهير السباعي يؤكد، وهو (الطبيب المجرِّب) والأستاذ الجامعي في مجال الطب ، أن تعليم الطالب العربي باللغة العربية في مجال الطب يجعله أكثرَ إبداعاً، وقدرةً على الاستيعاب ، والتطوير ، وتحقيق الرِّيادة التي يصبح بها مَرْجعاً، كما كان الأطباءُ العربُ مراجعَ يُقتدى بهم ، ومصادرَ مهمة للعالم الغربي في مرحلة من المراحل. (اللغة والفكر) تداخُلٌ لا يُصح أنْ نتجاهله أو نغفل عنه. إشارة : في طريق الحياة أَغصان حبٍّ=تحت أفيائها يطيب المقيلُ