في بلادنا تحولات اجتماعية وثقافية كبيرة، وانفتاح فكري غير مسبوق، والوعي الحضاري يفرض استثمار هذه اللحظة التاريخية؛ لتطوير خطابنا الثقافي، وتجديد البحث في قضاياه، وفقه الأولويات التي يفرضها العصر، وتقتضيها المصلحة. هذه التحولات ينقسم في العادة الناس أمامها قسمين: قسم يتميز بعقلية آبائية لا ترى فيما يجري إلا الويل والثبور وعظائم الأمور، فتتمسك بموقف حدي رافض؛ خوفًا من هذا الجديد، وهو موقف سهل، يحمّل فيه الآخرون الخطأ والنقص، ويوصفون بأقذع الأوصاف، وتبدو فيه الأنا معصومة من الخطأ، منزهة عن النقص، مغتبطة بأفكارها ومواقفها، محصنة بوثوقية فكرية وطهورية دينية لا حدود لها. وموقف مضاد للموقف الأول يتميز بخلط الأوراق، وحرق المراحل، وثقافة القصف العشوائي للمجتمع بكل ما فيه، فالمرحلة الجديدة قطيعة معرفية مع الماضي، وثورة عليه، وعسكره منظمة للناس ضد قيمه وأعرافه، وحين يدعي أولئك الطهورية فإن هؤلاء يتمسحون بالوطنية، وكل حزب بما لديهم فرحون. والمتابع لحراكنا الثقافي يجد أن الصراع بين الفريقين محتدم، وأن البحث فيه عن الغلبة أكثر من البحث عن الحقيقة، ولهذا لجأ المتصارعون إلى مسالك تفتقد لشرف الخصومة، وتفتقر لأبجديات الحوار الحضاري البناء، وكانت تصفية الحسابات، واستعداء السلطة منهجية منظمة لدي الفريقين. في هذا الجو المشحون في مجتمع يفتقد لمنهجية الحوار حتى على مستوى النخب، وفي ظل هذا الانفتاح الثقافي ظهر علينا أفكار شاذة، وفتاوى تتصادم مع ثوابت الدين، وتصف المناهضين له بالجهل والتخلف والإقصائية. وكان لهذه الفتاوى آثار كبيرة على نفوس الناس، وبخاصة مع صمت المؤسسة الدينية عن هذه التجاوزات التي جعلت من الشبهات أصولًا، وشككت الناس في كثير من قضايا الدين. في ظل تزايد هذه الفتاوى الشاذة، والآراء الغريبة صدر خطاب خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز الذي كشف فيه عن متابعة دقيقة لما يجري من تجاوزات تشكل تشويهًا للدين وخطرًا على الوحدة الوطنية. وأبان عن خطورة الجرأة على الفتوى، واتخاذ سعة الخلاف مركبًا للتشويش على الناس؛ بحثًا عن مطامع عاجلة، أو تحقيقًا لأغراض خفية. وجاء الموقف حاسمًا وشاملًا. فالدولة دولة مؤسسات، ويجب أن تكون الفتاوى العامة خاصة بهيئة كبار العلماء الذين عرفوا بمكانتهم العلمية، ووعيهم بدقة المرحلة التي نمر بها، وحرصهم على نقاء الشريعة من تحريف المبطلين وانتحال الغالين، وتقديرهم لقيمة الوحدة الوطنية ومكتسباتها. وأكد القرار أننا دولة قامت على الدين، وأن مكانة هذه البلاد مرتبطة بعزة الدين وأهله، ومؤسساته التي تعظم شعائره، وهو حديث جامع مانع يؤكد وجوب الانتماء تحت راية التوحيد، وتعزيز قيم التدين، ونبذ التعصب بجميع أشكاله، والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ومحاسبة كل من يتجاوز هذه المعاني السامية كائنًا من كان، فحتى لا تغرق السفينة فإن ربان السفينة بحاجة إلى أن يتخذ موقفًا حازمًا ووسطيًا يحفظ للدين مكانته وللمجتمع توازنه. إن قوة الوطن دائما في وحدته، وحارس هذه الوحدة هو القائد الفذ الذي يحرص على جعل هذه القوة النبع الذي لا ينضب.