أتدرك ما قالت البوصلة؟ - زمني عاقرٌ قريتي أرملهْ وكفي معلقة فوق باب المدينةِ منذ اعتنقت وقار الطفولةِ وانتابني رمد المرحلة. لدى سادن الوقت تشرق بي جرعة الماء.. تجنح بي طرقات الوباء.. تلاحقني تمتمات البسوسْ أرى بين صدري وبين صراط الشهادة شمساً مراهقةً وسماءً مرابطةً ويميناً غموسْ (. * القرين - الشاعر الكبير محمد الثبيتي وضعت في مواجهتي الآثار الكاملة للراحل المبدع عبد العزيز مشري (الجزء الأول من الأعمال الروائية - المجموعات القصصية) وفي انتظار أن يصدر قريباً الجزء الثاني من نتاجه الروائي، وشيئاً من نتاجه الشعري الذي لم يدون ولم يصدر في حياته، فيسابق الزمن في ذكرى رحيله العاشر الصديق الكبير الأستاذ علي الدميني وشقيق الراحل الأستاذ أحمد مشري، ورأسي وذاكرتي ما تزال تحوم في تفاصيل المشهد السردي المعاش والمعاصر، بدأ عبد العزيز رافعاً كفه التي طالما خطت لنا إبداعاً متنوعاً، وطالما غرز الأطباء حقنهم في أوردته عبر هذي الكف. صباح الخير / يا عبد العزيز.. يوه.. يوه.. هل أنا الذي في الآخرة أم أنت؟ قدرت السخرية التي وجهتني منذ اللحظة الأولى وضحكت، فإذا تلبستني حساسياتي الشديدة ، بددها بضحكة أخرى مجلجلة ، فأكتشف أني بين جبال عالية، تبدلت برودتها القارصة إلى أسئلة ملتهبة، وبحر تتلون مياهه بأحبار القلب، وكأن لا موت على الماء.. يجد عبد العزيز حيلاً كثيرة، تفتح مغاليق صمتي في حضوره البهي، وينجح في إذابة حساسياتي في معين وجعه، فلا يتوقف في محطة الأسئلة الجريئة الكاشفة، يرهن في تفاصيل السؤال مشاهد دقيقة تجذبني وتخيفني، وترتفع وتيرة الشك والأسئلة فتمنيت بما (يثير التجريب في الفنون عامة، وفي البناء الشكلي الرواية خاصة، مسألة أساسية هي ضرورة أن يرتبط المسعى التجريبي بمواقف اجتماعية أو بهموم فكرية وفلسفية تسهم في ربط هذا المسعى بعصره من جهة وتسوغ للكاتب محاولاته التجريبية من جهة أخرى. فالكاتب المبدع لا يكتفي بمجرد استهلاك أشكال فنية أبدعها أسلافه من الكتاب، وبما أن الأشكال الفنية كانت دائما ً نتاج تفاعل عبقري بين ذوات مبدعة وعصورها) * فكرة مجنونة أن نتبادل الأدوار ليأخذ دور (البديل) ويعطيني (موت على الماء) أولى مجموعاتي القصصية وأولى مجموعاته السردية بالذات، والذين يعرفون في المذاهب السردية يعرفون السبب.. لكن هيهات! وقعت نظري على قصة (عين العاقل) من مجموعة الزهور تبحث عن آنية، وقد فتحت مجلد الأعمال الكاملة التي مررت بها عشرات المرات، وبدأ فعلا ً أني أرى هذي القصة لأول مرة، فنصوص عبد العزيز وبالذات عالم مجموعة الزهور تبحث عن آنية، لا تخلو من إشارة لمرضه ولعالم المستشفيات، فالواقعة التي انتحى عبد العزيز ركناً مهما في شوطها الكتابي، لكن فضاء قصة عين العاقل أجدها خارج سياق هذا الفضاء مع أن أحداثها تدور داخل مستشفى، قصة عين العاقل التي لم يدون تاريخ كتابتها، تنتمي فنياً إلى المجموعة الأولى موت على الماء في رمزيتها، ولو كان فضاءها مستشفى المجانين.! بطل قصة (عين العقل) شاب في العشرين من عمره، يختصره عبد العزيز في إشارات قليلة، تنحصر في (ثورة) أسئلة وشك في أقرب المقربين، فتكاد تتخيل أنك تعرف هذا الشاب (النموذج) لعشرات أمثاله، يعانون من (وصاية) المجتمع بداية من الأب والأخ الكبير، ونهاية بما يراه الشاب من الأشباح الذين يختفون خلف نظارات سوداء، وهنا - شرارة الحوار التي يشترك الكاتب والمريض فيها، لينتج لنا نصاً لمريضين في ( دهليز ) يرى كل منهما الآخر ب(عين) أخرى، فالشاب الذي يغيب في الدهليز، فجأة يسقط سؤاله القاسي على رأس الكاتب، ليصل من خلف النظارتين الشمسية والطبية بقوله: (يا أخ أنت من إياهم ؟) * ص 251 التأمل والتأويل لا بد أن يعتري جسد نص حواري، تحضر في نهايته شخصية وهمية ثالثة، تضيء نص مشحون بالرفض والتمرد والشك والسؤال، لتلقي في الفضاء كلمة عائمة تعيد للنص واقعيته (مجانين.. الله يلطف بنا) ص255 في نهايته، ويتضح الإشارة والتناقض بين الشخصيات في أسئلتها المتبادلة، فالشاب يكشف في سؤال عن (الساعة) شخصية الرجل ذو اللحية، فأفاض الشاب العشريني بوصفها (والله كذاب.. *****.. منافق) بصوت مسموع، تجاهل الإبلاغ عن الزمن محدداً الوقت بصلاة الظهر في إجابته على سؤال الشاب، ويتضح في المواجهة بين الشاب العشريني البطل، والكاتب (السارد) الدلالة والمفارقة في لغة العيون، فالشاب قرأ الآية الكريمة (وأن لو استقاموا على الطريق لأسقيناهم ماءُ غدقاً) دون أن يحدد من يعني ب(من هم ّ؟) مباشرة في ثرثرته المباشرة على سؤال السارد، إذ يكتفي وهو يغيب في نهاية الدهليز في إشارة (رمزية) بقوله ( هذا كلامكم.. من فين أنت؟ متزوج وإلا لا؟ ليش تدرس؟، تحب الكورة وإلا البلوت؟ كم عدد أصابع يدك؟ توقف.. فرك كفيه ببعضهما.. وقال بحدة أيضا: يا أخي.. أنا من ديار العفاريت.. أنبسطت؟) ص253 وسؤالي المجنون: نعرف جميعاً كم يعاني الفنان من (السلطات) المتعددة، بداية من سلطة البيت فالمدرسة فالمجتمع إلى ما شاء له أن يعاني. فهل أراد أن يقول لنا عبد العزيز مشري شيئاً جديداً في هذا النص؟ وبلا تحفظ أقول: نعم! حياة عبد العزيز سلسلة من العذابات الواقعية، فسرعان ما تحول بعد مجموعته الأولى (موت على الماء) إلى الواقعية، لينقل لنا عوالم من الواقع المعاش باستثناء هذي القصة (الرمزية) التي أرى فيها شيئاً من الواقع؟ عبد العزيز سيظل مدرسة في فن الدرس السردي حتى لو غاب جسده الذي عذبته الأوجاع، ولم يحضر كغيره في مناهج التعليم كما حضر تحت مشارط الأطباء، ينحت بشفافية وواقعية في لحمة مجتمع مستلب، يقاوم ويرفض أن يرى بغير النظارة السوداء.. صباح الخير يا عبد العزيز.. صباح الخير يا وطني. لن تصمت أبداً!