على كثرة ما كتب في موضوع غزة، أزعم أن القصة الحقيقية لم ترو بعد، وأن الجزء الغاطس في الموضوع أكبر بكثير مما ظهر على السطح. (1) لا أدعي أنني على إحاطة بكامل حقائق القصة، لكن ما توفر لدي من معلومات خلال الأسبوع الماضي أقنعني بأن الكثير مما تداولته وسائل إعلامنا، بعضه يفتقد إلى الصواب والبعض الآخر يفتقد إلى الدقة والبعض الثالث يفتقد إلى البراءة. وقبل أن أعرض ما عندي في هذا الصدد، ثمة خلفية يتعين استدعاؤها، لأنها تسلط الضوء على الحقيقة المغيبة، ذلك أنه من التبسيط الشديد والمخل للأمور القول بأن العدوان “الإسرائيلي” على غزة جاء نتيجة لإلغاء التهدئة، وإطلاق بعض الصواريخ على القطاع، وهذا الادعاء هو أحد الأكاذيب التي روجتها “إسرائيل”، ونجحت في دسها علينا، حتى أصبحت أحد محاور خطابنا الإعلامي. وللعلم، فإن الذي فضح هذه الأكذوبة وفندها هو الكاتب والباحث الأمريكي اليهودي، هنري سيجمان، في مقالة مهمة وكاشفة بعنوان “أكاذيب إسرائيل” نشرتها له مجلة “لندن ريفيو أوف بوكس” (عدد 29 يناير/ كانون الثاني)، وكانت خلاصة مقالته أن “إسرائيل” هي التي نقضت التهدئة وليست حماس، عبّر عن هذا الموقف أيضا البروفيسور جون ميرزهايمر أستاذ العلوم السياسية بجامعة شيكاغو الذي كتب مقاله بعنوان “حرب أخرى.. خسارة أخرى، في مجلة “ ذا اميريكان كونسيرفاتيف “ (26 يناير/ كانون الثاني) قال فيها: إن سبب الحرب ليست صواريخ حماس، بل متابعة “هدف إسرائيل الكبرى”. صحيح إن حرب المشروع “الإسرائيلي” في فلسطين عمرها مائة عام، إلا أن النتائج المفاجئة لانتخابات المجلس التشريعي في عام 2006 كانت بمثابة نقطة تحول في المسيرة، ذلك أن تصويت الجماهير للمقاومة وحصول حركة حماس على أغلبية المجلس قلب الموازين وصدم الجميع، إذ أفاقت “إسرائيل” على حقيقة أن مشروعها للتسوية السياسية أصبح في خطر. تماما كما أن جماعة السلطة في رام الله أدركوا أن احتكارهم لصدارة المشهد الفلسطيني أصبح بدوره في خطر، وهو ما أحدث توافقا على ضرورة إلغاء نتيجة الانتخابات، والتخلص من حماس وما تمثله بكل السبل، فتولت “إسرائيل” اعتقال أغلب ممثليها في المجلس التشريعي المنتخب، بمن فيهم رئيسه، وكان على أجهزة السلطة في غزة أن تسقط الحكومة المنتخبة، وبدأت المناكفات بمقاطعة الحكومة، ثم الاشتراك في حكومة للوحدة الوطنية، التي لم يتوقف أبومازن عن مقاطعتها من جانبه، في حين تولت الأجهزة الأمنية التابعة له على إثارة الفلتان الأمني بهدف إفشال تجربتها، الأمر الذي اضطرت معه الحكومة إلى الاستيلاء على مقار تلك الأجهزة لإجهاض مخططاتها وإنهاء تمردها، وقد وثق الدور الأمريكي في عملية الانقلاب على الحكومة وإفشالها الصحافي، ديفيد روز، في التقرير المثير الذي نشرته له مجلة “فانيتي فير” (عدد أبريل/ نيسان 2008)، وحين فشل الانقلاب الداخلي الذي قادته الأجهزة الأمنية لجأت “إسرائيل” إلى حصار القطاع، ولم ينجح التجويع في إثارة الفلسطينيين وانقلابهم على الحكومة، كما كان مرجواً، وإزاء فشل كل هذه المحاولات لجأ “الإسرائيليون” إلى السلاح لتحقيق الهدف الذي طال انتظاره. ومن ثم كانت العملية العسكرية التي بدأت في 27 ديسمبر/ كانون الأول 2008 للقضاء على المقاومة وإزالة آثار انتخابات عام 2006. (2) معلوم أن الوساطة المصرية أسفرت عن تهدئة مدتها ستة أشهر، انتهت في 17 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، وخلال تلك الفترة أوقفت حركة حماس أي نشاط للمقاومة المسلحة ضد الاحتلال، وفاء بمقتضيات التهدئة، في حين لم تلتزم “إسرائيل” بشيء، سواء فيما خص فتح المعابر لتوفير احتياجات الناس المعيشية، أو في ما تعلق بوقف الأعمال العسكرية، حيث واصلت عمليات التوغل والتصفية، التي كان آخرها قيامها في الرابع من نوفمبر بقتل ستة من عناصر حماس بالقطاع. هذا الكلام ليس من عندي، ولكنه ورد في سياق شهادة للقائد “الإسرائيلي” السابق في القطاع، العميد شمويل زكاي، نشرته صحيفة “ها آرتس” في عدد 22 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، وقد ذكر الرجل في شهادته أن “إسرائيل” أساءت استخدام فترة التهدئة باستمرارها في حصار فلسطينيي القطاع، وكان يمكن أن تستمر التهدئة إذا لم تصر على الحصار، ولم تواصل قمع الفلسطينيين. حين حل موعد انتهاء التهدئة في 17 ديسمبر/ كانون الأول، لم يجر أي اتصال مع قادة حماس بخصوص ترتيبات المستقبل، وليس صحيحا أنهم وقتذاك نصحوا وحذروا من العواقب، كما ذكرت بعض التصريحات السياسية، وكان على فصائل المقاومة أن تحدد موقفا من المسألة، فعقد ممثلوها اجتماعات في غزةودمشق أعلنوا بعدها أن الفترة المتفق عليها انتهت، وإزاء استمرار “إسرائيل” في الحصار وتصفية الناشطين، فإنهم أصبحوا في حل من التزاماتهم إزاءها. للدقة، فإن القاهرة أجرت قبل أسبوع من الحرب اتصالين هاتفيين مع الدكتور محمود الزهار، القيادي في حماس، بخصوص تجديد التهدئة، فكان رده أن حماس وفصائل المقاومة الأخرى في القطاع، لا يستطيعون القبول بالتجديد في ظل استمرار الحصار، ورغم تواتر الأنباء عن اتجاه “إسرائيل” إلى الهجوم على القطاع، فإن الدكتور الزهار تلقى اتصالا هاتفيا من القاهرة يوم الخميس 25/12 أبلغ فيه بأن “إسرائيل” لا تنوي القيام بعملياتها العسكرية. إلا أنها شنت هجومها المفاجئ والشرس في 27 يناير/ كانون الثاني أي بعد يومين اثنين فقط من الرسالة التي أبلغت إليهم. كان التقدير “الإسرائيلي” المبدئي أن العملية سوف تستغرق ثلاثة أيام، وأن القصف المكثف، والمجنون سوف يدفع المقاومة إلى التسليم. ولوحظت آنذاك ثلاثة أمور، الأول: أن الاجتماع الطارئ لوزراء الخارجية العرب تحدد بعد خمسة أيام من بدء الحرب. الثاني: أن بعض رجال الأمن الوقائي الهاربين اتجهوا إلى رفح المصرية متوقعين أن قيادات حماس سوف تهرب من القطاع، وأن الساحة ستكون مهيأة لاستقبالهم. الثالث: أنه لم يجر أي اتصال مع قيادات المقاومة في الخارج، باستثناء اتصال هاتفي وحيد أجراه عمرو موسى أمين الجامعة العربية، مع نائب رئيس حركة الجهاد الإسلامي زياد نخالة، المقيم في دمشق. في اليوم السادس - الخميس الأول من يناير/ كانون الثاني - تلقت قيادة المكتب السياسي في حماس اتصالاً هاتفياً من أحد مسؤولي المخابرات العامة في القاهرة، دعا خلاله وفدا من الحركة لبحث الموقف في العاصمة المصرية، علماً بأن خطوط الاتصال ظلت مقطوعة بين الطرفين منذ رفضت الحركة حضور مؤتمر المصالحة في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، وحتى لا يفهم أن حماس متلهفة على وقف إطلاق النار، فإنها أخرت إرسال الوفد إلى الأحد 4 يناير/ كانون الثاني. في الوقت ذاته، بعد أسبوع من بدء الحرب، أجرى الفرنسيون والدنماركيون اتصالات مع قيادة المكتب السياسي في دمشق لتحسس احتمالات وقف إطلاق النار. هذه الاتصالات كانت تعني أمرين، أولهما: أن صمود المقاومة في غزة فاجأ الجميع، ولم يكن في الحسبان. وثانيهما: أن “إسرائيل” تريد أن تنهي الحرب بفرض شروط التسليم على حماس. الملاحظ في هذا الصدد، أن الغارات “الإسرائيلية” كانت تشتد وتزداد عنفا أثناء وجود ممثلي حماس في القاهرة، ولم تكن تلك الغارات سوى رسالة ضغط على المفاوضين لدفعهم للقبول بالتسليم، وهناك معلومات تشير إلى أن رئيس الوزراء “الإسرائيلي” إيهود أولمرت أجل خطاب إعلان قرار وقف إطلاق النار مرتين، انتظارا منه لما يمكن أن تسفر عنه اجتماعات القاهرة التي رفضت فيها حماس ما نقل إليها من إملاءات “إسرائيلية”. (3) هناك أسطورتان راجتا أثناء الحرب وبعدها هما : أن المعركة استهدفت التصدي للنفوذ الإيراني في المنطقة، وتلك شائعة “إسرائيلية” أرادت بها “إسرائيل” أن تحقق ثلاثة أهداف، الأول: تشويه صورة المقاومة الفلسطينية وتصويرها بحسبانها أداة في يد إيران. والثاني: استنفار العالم العربي الذي تتوجس بعض أنظمته من إيران، ومن ثم الإيحاء بأنها العدو الحقيقي للعرب وليست “إسرائيل”، وهو ما قالته صراحة وزيرة الخارجية تسيبي ليفني. الثالث: تصفية الحسابات “الإسرائيلية” إزاء إيران التي تعتبرها الدولة العبرية أكبر تحد لها، خصوصا في ظل استمرارها في مشروعها النووي. المفارقة أن التلويح بأكذوبة التدخل الأجنبي الإيراني تتم في الوقت الذي تمسك فيه الولاياتالمتحدةالأمريكية بكامل الملف الفلسطيني. وهو ما اعترف به رسميا في اجتماع أنابوليس، ثم إن هذه المقولة لا تفرق بين الحليف والعميل، والذين يرددونها لا يعرفون أو يتجاهلون أن حماس رفضت الاشتراك في مؤتمر الفصائل الذي دعت إليه طهران أثناء انعقاد اجتماع أنابوليس، مما عكر صفو العلاقات بين الطرفين لبعض الوقت، كما أنها رفضت الملاحظات الإيرانية على اتفاق التهدئة الذي تم في شهر يونيو/ حزيران الماضي، وهي الملاحظات التي حملها مبعوث إيراني وصل إلى دمشق على طائرة خاصة آنذاك، وقيل له صراحة إن حماس حريصة على استمرار تحالفها مع إيران، لكنها أشد حرصا على استقلال قرارها، وهناك حالات أخرى مماثلة لا يتسع المجال لذكرها الآن، لكن الغريب أن الذين يتخوفون من مساندة إيران للمقاومة لا يبدون أي تحفظ على تحالف الأمريكيين و”الإسرائيليين” مع الطرف المقابل. الأكذوبة الثانية: تتمثل في الاعتقاد السائد في بعض الأوساط السياسية العربية بأن التحالف الحاكم في “إسرائيل” الآن ليفني - باراك أو كاديما والعمل هو أفضل للعرب من الليكود الذي يقوده بنيامين نتنياهو، ولهذا فإن هناك حرصا شديدا وتحركات مشهودة من جانب تلك الأوساط السياسية العربية لإنجاح التحالف القائم، وترجيح كفته في مواجهة الثاني وبصرف النظر عن جدوى تأثير هذه المحاولات على الناخب “الإسرائيلي”، فإن الذين يتعلقون بوهم المراهنة على تحالف يسار الوسط الحاكم هناك، ينسون أن كل الحروب التي شنتها “إسرائيل” ضد العرب قادها ذلك التحالف الخبيث، باستثناء ما جرى في عام 1982 حينما قاد شارون الليكودي آنذاك حملة اجتياح بيروت. (4) ربما لاحظت أنني لم أتحدث عن دور “القمم” التي عقدت أثناء الحرب وبمناسبتها في قطر والكويت وشرم الشيخ والرياض، وحتى في ذلك أنها لم تغير شيئا في السياسات، رغم أنها أسهمت في ترطيب الأجواء وأذابت الجليد بين الرؤساء المختلفين، بمعنى أنها كرست الانقسام العربي، وبالتالي فإنها عمقت من الانقسام الفلسطيني وسمحت باستمراره. ولم يحن الوقت بعد للخوض في تفاصيل ما جرى في اجتماعات تلك القمم وكواليسها. ما يهمنا في المسلسل الذي نحن بصدده أن الأهداف التي لم تحققها “إسرائيل” بالحرب، تحاول الآن بلوغها عن طريق الضغط والإملاءات السياسية، حيث يظل إخضاع حماس وإلغاء نتائج انتخابات عام 2006 هدفا لا تريد “إسرائيل” ومن لف لفها التراجع عنه، بالتالي فالمعروض الآن تحديدا هو العودة إلى الوضع الذي ساد قبل 27 ديسمبر/ كانون الأول، الذي يستدعي التهدئة التي تكبل المقاومة وتطلق يد “إسرائيل” مع الإبقاء على صورة محسنة للحصار، وتعليق كل شيء بعد ذلك، خصوصا الإعمار ورفع الأنقاض وإخراج ما تحتها من جثث، حتى توافق حماس على الخضوع وتقبل بكل ما رفضته في السابق، رغم كل ما سال من دماء وأبيد من بشر ودمر من عمران. ولأن هذا الكلام كتب قبل أن تتلقى القاهرة رد حماس على ما هو معروض عليها، وأيضا قبل أن تجرى الانتخابات “الإسرائيلية”، فإن الحديث عن سيناريو المستقبل يصبح مبكراً، ويغدو الترقب والانتظار فضيلة مستحبة. نقلاً عن صحيفة "الخليج" الأماراتية.