التحولات الكبرى التي تحيط بنا من كل جانب ستأخذنا إلى آفاق قصية لم تكن في الحسبان . فالتدفق المعلوماتي ، وسهولة التواصل بين جهات العالم الأربع ، سيفرض رؤية جديدة ، ومواقف مغايرة ، تستثمر هذه المعطيات العظيمة ، وتجندها للتنمية المستدامة عند من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد . هذه التحولات يصفها عالم المستقبليات الأمريكي( إلفن توفلر ) في كتابه إنشاء حضارة جديدة بسياسة الموجة الثالثة ، وهي موجة اقتصاد المعرفة ، الموجة التي تلت موجتي الزراعة والصناعة ، وفرضت وستفرض في المستقبل رؤى وتصورات تبدو لدى كثير من الناس حين يتأملونها نوعا من الهذيان ، ومسا من الجان . أقول هذا الكلام لألفت نظر جامعاتنا السعودية وكراسيها العلمية المتدفقة بوجوب وجود مراكز متخصصة للدراسات المستقبلية . فالجامعة بمفهومها الحديث هي بوصلة توجيه للمجتمع ، وعليها أن تستشعر المسئولية ، وتكون على قدر المسئولية المنوطة بها . إن من أوجب واجبات جامعاتنا وهي تعلن كل عام حالة الطوارئ ؛ لاستقبال خريجي الثانوية العامة الراغبين في إكمال دراساتهم الجامعية برغبة في المعرفة ، أو الشهادة ، أو الهروب من شبح البطالة ، والهروب من مواجهته أربع سنوات قادمة أن يكون لديها رؤية واضحة ، وأهداف مرسومة ، وخطط تنفيذية دقيقة تبنى على رؤية واضحة لدى الجهات المختصة في الدولة كوزارة الخدمة المدنية ، والعمل ، والتربية ، والتخطيط ، والمالية .. وحمى القبول السنوية وصداعها المؤلم لم يسفر حتى هذه الساعة عن مركز تنسيق للقبول يضمن عدم الازدواجية ، فأحيانا نجد الطالب مقبولا في أربع جامعات ، وأضاع على ثلاثة من زملائه فرصة القبول في ثلاثة مقاعد مشغولة باسمه ، لا يتم التأكد منها إلا بعد انتهاء وقت القبول . الدراسات المستقبلية تفرض علينا إيجاد حلول لمشكلات البطالة وتدفق المقبلين على الجامعات والمتخرجين فيها في بلد فيه أكثر من سبعة مليون عامل ، واحتياجات الوطن من أصحاب الياقات الزرقاء والبيضاء . وستكون جامعاتنا قادرة بما فيها من قدرات علمية على تقديم استشارات عميقة في التنبؤ ورسم الخطط المناسبة . إن نجاح الاقتصاديات العملاقة يتم بناؤه داخل مراكز بحوث الجامعات التي أصبحت اليوم في الموجة الثالثة هي رأس المال الحقيقي والنبع الذي لا ينضب . و ما يجري من ازدهار اقتصادي في بعض الولاياتالمتحدةالأمريكية ناتج عن وجود جامعات عريقة في تلك الولايات تمدها بالرؤى الواضحة والمعلومات الدقيقة . ولن تفعل جامعاتنا مثل هذا إلا بدعم كبير يخصص للمعاني وليس للمباني ، وللعقول وليس للصيانة والتشغيل ، فميزانيات جامعاتنا لا يذهب منها لصناعة المعرفة إلا الفتات الذي كثيرا ما يضيع في دهاليز البيروقراطية والبند الذي لا يسمح ! والدعم حين يتوافر يحتاج إلى إرادة وقيادة ، فالإرادة تجعل من لا يعرف يتعلم ، ومن لا يستطيع يجرب، ومن يفشل يعيد المحاولة مرة أخرى . إن الزمن يقودنا إما إلى المقدمة وإما إلى خارج المضمار وعلينا أن نحدد أين نريد أن نكون ، فقطاره لن ينتظر أحدا ، وقد علمتنا الأيام أننا نأتي متأخرين دائما ، فهل نقلع مع العالم اليوم حتى لا تكتسحنا الموجة الثالثة .