إذا كنت متفقاً معي في أن \"المال\" أقوى سبل الردع، والتوعية، فيمكنك إكمال قراءة المقال. لو أنني – أو غيري – كتبت مقالاً أطالب الحكومة والقطاع الخاص برفع رواتب الموظفين، وتخفيض جميع الرسوم، ومبرراتي سهلة، أهمها على الإطلاق الرخاء والحياة الرغيدة التي ينشدها كل إنسان ووفرة المال بطبيعة الحال أهم شروطها، فكيف ستكون مشاعر القراء، أن مقالاً كهذا سيصبح درة المقالات، وحديث الناس، ولن تجد أحداً وسط غمرة الفرح به، يتساءل كيف يتم ذلك، وإلى متى يستمر، وما هي فوائده المستقبلية؟ والمستقبلية هذه بالذات لا أحد – إلا نادراً – يسأل عنها أو يفكر فيها، حتى لو كانت تعني سنوات ستدركها بنفسك إن أحياك الله تعالى. إليك صورة أخرى، ماذا لو أن كاتباً تجرأ وطالب الدولة بإيقاف الدعم عن \"الكهرباء والماء، والبنزين\". وقال دعوا شركاتها تبيع هذه الخدمات على الناس بأسعارها التجارية، مثلما هو حال شركات الاتصالات تماماً، وقدم ذات المبرر لمطالبته هذه، أقصد الرخاء والحياة الرغيدة الدائمة حاضراً ومستقبلاً. إن مقالاً كهذا سيكون نقطة سوداء في تاريخ كاتبه، وسيتعرض لصنوف من الاستهجان والسخرية، باستثناء قلة نادرة قد تفهم وتتفهم ما يقول. وهذه القلة – إن كان تقديري سليماً – هي ما يهمني. لذا سأقول دون تردد، إن عثرات \"الماء والكهرباء\" الملحوظة هذه الأيام ستستمر في التفاقم مستقبلاً، ولن يعالجها دعم الدولة، ولن تفيدها حملات التوعية الإعلامية بضرورة الترشيد، لن يعالجها ويفيدها وينهي مأساتها سوى إطلاق سراحها، والسماح لها بأن تكون شركات تجارية مثلها مثل شركات الاتصالات والبريد، تبيع منتجاتها بالأسعار التي تضمن لها الاستقرار والاستمرار والربح، والكل يعرف الآن أن \"الكهرباء، والماء\" لا تغطي رسومهما التي يدفعها المستهلكون، تكاليفهما، بل إنها – أي الرسوم – أقل من قيمة التكلفة بكثير، والمستهلكون لهاتين الخدمتين ليسوا كلهم محتاجين للدعم، هناك فئة من المواطنين محتاجة، وهذه الفئة تستطيع الدولة أن تجد ألف سبيل وسبيل لدعمها، بل وتحمل تكاليف الماء والكهرباء كلياً عنها، مثلما تفعل وزارة الشؤون الاجتماعية حالياً من تحمل فواتير الكهرباء عن الفقراء، وهذا الدعم الذي ستتحمله الدولة هو بكل تأكيد أقل كثيراً مما تتحمله الآن وهي تدعم الشركتين \"الكهرباء والماء\"، فضلاً عن أن هذا الدعم ليس مضموناً في المستقبل، ومعنى هذا أن استمرار الخدمتين غير مضمون. أما \"البنزين\"، فأنا لا أعرف تكاليف إنتاجه، وليس هناك معلومات عن ذلك، لكن أسعاره الحالية بكل تأكيد أرخص من تكاليف الإنتاج بكثير، بل إنها – أقصد الأسعار – برخصها الشديد ذات آثار سلبية كثيرة على المستوى الحياتي العام، أما من الناحية الاقتصادية، فقد وجدت مقالاً للدكتور عبدالرحمن الحميد في صحيفة \"الاقتصادية\" يوم الأحد الماضي، يشتكي فيه من عدم وجود معلومات واضحة عن إيرادات وتكاليف البنزين تمكنه من التحليل الاقتصادي السليم، لكنه يقول: \"يقال – لا حظوا يقال – إن إعانة البنزين، أو الفرق بين سعره سابقاً وحالياً، تتجاوز عشرة مليارات سنوياً، ويتم توزيعها بين طبقات المجتمع الذين يستخدمون المركبات بالتساوي سواء كانوا سعوديين أو غير سعوديين، و\"يقال\" نظرياً إن استثمار هذه المبالغ التي تعادل ميزانيات البلديات مجتمعة في مشاريع أجدى وأنفع للاقتصاد كالصحة والتعليم مثلاً، مع ضرورة العمل بكل الوسائل لعدم تأثر ذوي الدخل المحدود بأي تغيرات في أسعار البنزين\". انتهى ما أخذته من مقال الدكتور الحميد، وأنا أتفق معه في ضرورة اهتمام الدولة بذوي الدخل المحدود، في البنزين، وفي الماء والكهرباء، وفي كل شؤون حياتهم، لكنني أضم صوتي إلى صوته وهو يقول \"إن الوضع الحالي لتسعير – البنزين – بكل تأكيد يحتاج إلى إعادة هيكلة، حيث إن بقاءه يعود بالضرر الجم المباشر وغير المباشر على جملة الاقتصاد الوطني\". وأنا أضيف الماء والكهرباء، وللاختصار حاولت اختيار الحرف الأول من اسم كل خدمة، فتكونت كلمتان ذات معنى فقط بفتح الحرفين الأولين لكل منهما مثلما هما في الأصل إحداهما \"مكب\" والأخرى \"بكم\" وكلتاهما ذات معانٍ سلبية قاموسياً، وعامياً، ولا أسف على إلغائهما. ومرة أخرى وعاشرة أقول إن الرخاء الدائم خير وأبقى من المؤقت، ودغدغة المشاعر واستدرار العواطف الآنية تعجب الكثيرين، لكن القلة يدركون خطرها حاضراً ومستقبلاً، وهذه القلة – أمثال الدكتور الحميد – هي زرقاء اليمامة. يبقى السؤال: من يدرس، ومن يوصي، ومن يقرر؟ أعتقد أن إجابة السؤال عند المجلس الاقتصادي الأعلى، وعند مجلس الشورى، وعند مجلس الوزراء.