العبث كما يقول أهل اللغة: اللعب. يقال: عَبِثَ عَبَثًا مِنْ بَابِ تَعِبَ ؛ لَعِبَ وَعَمِلَ مَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، ورجل عِبِّيثٌ: عابِثٌ . الأصل أن حياة المسلم كلها جد لا تعرف العبث؛ لأنه في الحياة الدنيا مرتحل ، وفي الآخرة مسؤول، وسعادته وشقاوته مرهونة بما عمل في دنياه بعد رحمة مولاه. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِمَنْكِبِى فَقَالَ:« كُنْ فِى الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ ». وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: إِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ. قال النووي: « قالوا في شَرْحِ هَذَا الحديث معناه : لاَ تَرْكَنْ إِلَى الدُّنْيَا وَلاَ تَتَّخِذْهَا وَطَناً، وَلاَ تُحَدِّثْ نَفْسَكَ بِطُولِ البَقَاءِ فِيهَا، وَلاَ بِالاعْتِنَاءِ بِهَا، وَلاَ تَتَعَلَّقْ مِنْهَا إِلاَّ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْغَريبُ في غَيْرِ وَطَنِهِ، وَلاَ تَشْتَغِلْ فِيهَا بِمَا لاَ يَشْتَغِلُ بِهِ الغَرِيبُ الَّذِي يُريدُ الذَّهَابَ إِلَى أهْلِهِ» وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه: ارْتَحَلَتْ الدُّنْيَا مُدْبِرَةً وَارْتَحَلَتْ الْآخِرَةُ مُقْبِلَةً، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنُونَ، فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ وَلَا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا ، فَإِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ وَلَا حِسَابَ وَغَدًا حِسَابٌ وَلَا عَمَلٌ « وعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خُطْبَةً مَا سَمِعْتُ مِثْلَهَا قَطُّ ، قَالَ:« لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا ». قَالَ فَغَطَّى أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وُجُوهَهُمْ لَهُمْ خَنِينٌ « قَالَ النَّوَوِيّ :» لَوْ تَعْلَمُونَ مِنْ عِظَم اِنْتِقَام اللَّه تَعَالَى مِنْ أَهْل الْجَرَائِم وَشِدَّة عِقَابه وَأَهْوَال الْقِيَامَة وَمَا بَعْدهَا كَمَا عَلِمْت وَتَرَوْنَ النَّار كَمَا رَأَيْت فِي مَقَامِي هَذَا وَفِي غَيْره لَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا وَيَقِلّ ضَحِكَكُمْ لِفِكْرِكُمْ فِيمَا عَلِمْتُمُوهُ « وقال المناوي: « قيل: معناه: لو تعلمون ما أعلم مما أعد في الجنة من النعيم وما حفت به من الحجب لسهل عليكم ما كلفتم به، ثم إذا تأملتم ما وراء ذلك من الأمور الخطرات وانكشاف المعظمات يوم العرض على فاطر السماوات لاشتد خوفكم (ولبكيتم كثيرا) «وأما أن سعادته في الآخرة مرهونة بما عمل في دنياه فيدل عليه قوله فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ *مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ) قال ابن كثير:» يقول تعالى آمرًا عباده بالمبادرة إلى الاستقامة في طاعته، والمبادرة إلى الخيرات فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ )أي: يوم القيامة، إذا أراد كونه فلا رادَّ له،( يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ )أي: يتفرقون، ففريق في الجنة وفريق في السعير؛ ولهذا قال: ( مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلأنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ) أي: يجازيهم مجازاة الفضل: الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى ما يشاء الله». وقال القرطبي رحمه الله :» قوله تعالى: (من كفر فعليه كفره) أي جزاء كفره. (ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون) أي يوطئون لأنفسهم في الآخرة فراشا ومسكنا وقرارا بالعمل الصالح» ومع هذا البيان القرآني والنبوي لما يجب أن يكون عليه المسلم إلا أن العابثين في الحياة كُثُر ؛ ألهتهم الغفلة ، وأسكرهم حب الشهوات. ومع كثرة العابثين إلا أننا سنتناول نوعا واحدا منهم وهم المفحِّطون لأن عبثهم ظاهر، وخطرهم داهم . وإليك صورا من عبث هؤلاء القوم : أولا: عبثهم بالنفوس المحترمة: لقد كرم الله الإنسان بأن خلقه بيده ( قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ) ،وأسجد له ملائكته ( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ )، وكرمه بأن خلقه لعبادته(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)، وفضله على كثير من الخلق(وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ) وسخر له ما في السماء والأرض( وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) ومن تكريم هذا المخلوق أن الله جعل قتله جريمة عظيمة ( مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ )، ومع هذا التكريم الإلهي للإنسان إلا أن المفحطين بأفعالهم يهدرون كرامته ، ويعبثون بحياته ومستقبله ، ويلقون به في التهلكة ؛ فتارة يصل العبث بهذا الإنسان إلى قتله وذهاب حياته سدى ؛ إما بصدمه وإما بهدمه وإما بحرقه ، وتارة يسببون له إصابات مؤلمة ، أو إعاقات مزمنة ، بل قد يعيش ما بقي من حياته تحت الأجهزة الطبية ، أو في غيبوبة تامة . فإن لم يكن هذا عبث ، فلا أدري ما هو العبث ؟!