الحياة في العيص هذه الأيام، تقودها اهتزازات الأرض، بين الاستقرار والاستنفار، الطمأنينة والخوف والراحة والقلق. في هذه الظروف تعلمنا إلى جانب اكتساب الخبرة الصحفية في تغطية تطورات نادرة الحدوث، سبيلا للعيش في أسوأ الظروف وأكثرها قهراً، في بلد خاوٍ على عروشه، بعد أن كان يمثل الحياة في أرقى درجات النعيم، فلا أناس ولا حراك، المطاعم والمحلات التجارية موصدة الأبواب. انقطع عنها كل شيء حتى صوت الأذان، وأبواق السيارات. حينما حان وقت القهوة والشاي عصر أمس الأول فوجئنا بنفاد الغاز. ولم نجد بداً من الانتشار في الأرض بحثا عن الحطب، وجمعنا حصيلة نسد بها حاجتنا، قبل أن يداهمنا الليل. أشعلنا النار وأعددنا كل شيء . وما هي إلا دقائق حتى سمعنا صوت أذان العشاء يرفع من بعيد، بعد أسبوع لم نسمع فيه صوتا ولم نر مسجداً أبوابه مشرعة، فتوجهنا بحثاً عنه. لم نجد في المسجد الذي يوجد في سوق الخضار (الحلقة) سوى مقيم (من الجنسية السودانية) يتوسط المحراب. فاقتربنا منه مخترقين صفوفاً خاوية من المصلين، وقرأ ما يجول في خواطرنا وقال قبل أن نسأله «أقمنا الصلاة.. فأحيت البلدة». المقيم علاء الدين محمد سيد توقف عن الحديث ليداري دمعة ساخنة انحدرت على خده عندما قال «ثلاثون عاماً وأنا أؤذن في هذا المسجد، ما حجبتني عنه إلا هذه الظروف». وحدثنا عن سبب عودته إلى العيص قائلا إنه دخل العيص عصراً مع كفيله لتفقد مستودع للدقيق والأرز في سوق الخضار فآثر على نفسه أن يبقى هنا ليغادر كفيله بمفرده إلى ينبع. وأشار إلى أنه يؤذن في مسجد السوق منذ عام 1400ه. ويشعر الآن بالحسرة حينما يتذكر حالة المسجد مكتظاً بحوالى ألف مصلٍ في صلاة الجمعة، وأمسى خاوياً لا يدخله أحد.