قدم الزعيم الليبي المقتول معمر القذافي خلفية مسرحية لحكمه الذي دام 42 عاما كانت حافلة بالقمع الدموي ولم يستطع في النهاية أن يصمد أمام انتفاضة شعبية مصممة على الاطاحة به مدعومة بالقوة الجوية لحلف شمال الاطلسي. واختفى القذافي بعد أن فر من طرابلس الشهر الماضي عندما استولت القوات المعارضة على العاصمة الليبية وقال البعض انهم يعتقدون أن الرجل الذي كان يعيش كالبدو في خيمة فر الى الصحراء الخالية والشاسعة في جنوب ليبيا. ولكن شخصيات من المجلس الوطني الانتقالي أعلنت يوم الخميس موت الرجل الذي كان يحكم البلاد متأثرا بجراح أصيب بها عندما استولت القوات المناوئة له على مدينة سرت مسقط رأسه واخر معقل للمقاتلين الموالين للنظام القديم. وتماشيا مع غرابة أطواره تمتع القذافي بجاذبية حققت له في البداية على الاقل تأييدا في أوساط كثير بين الليبيين العاديين. واكسبه استعداده لتحدي القوى الغربية واسرائيل بالاقوال والافعال طابعا مميزا لدى البعض في دول عربية أخرى شعروا أن زعمائهم مستسلمين. وبينما استسلم زعيما الدولتين المجاورتين بسرعة في وجه انتفاضات شعبية شن القذافي حربا دامية وتحدى حلف الاطلسي ومقاتلين ليبيين سيطروا بسرعة على نصف البلاد. واحتل القذافي خلال حكمه الذي دام 42 عاما مكانا بارزا في معرض الغرب للشخصيات الدولية المارقة بينما أحكم قبضته على بلده بالتخلص من المعارضين ورفض تعيين نائب له يخلفه. وحقق القذافي تقاربا ناجحا مع الغرب بالتخلي عن برنامجه لانتاج أسلحة الدمار الشامل مقابل انهاء العقوبات. ولكنه لم يتمكن من الافلات من مد ثورات شعبية تجتاح العالم العربي. وحانت ساعته عندما حول أسلحته ضد المحتجين وأرسل جيشه لتطهير بنغازي مما دفع القوى الغربية وحلف شمال الاطلسي الى بدء حملة قصف جوي أتاحت لقوى المعارضة الاطاحة به في وقت لاحق. وأصدرت المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي مذكرة اعتقال ضد القذافي وابنه ورئيس مخابراته لارتكابهم جرائم ضد الانسانية بالتخطيط للقمع العنيف للانتفاضة التي بدأت في شرق البلاد. وبينما كانت ليبيا المنتجة للنفط تنزلق الى حرب أهلية رد جيش القذافي بالقوة القاتلة التي لم يخش استخدامها قط رغم الصورة الشخصية الاستعراضية التي استحوذت على الكثيرين في الخارج. وعندما بدأت الاحتجاجات في منتصف فبراير شباط سقط المحتجون بالمئات. ومع تقدم قوات القذافي صوب بنغازي اشتهر القذافي بتحذيره للمعارضين وبأنه سيتعامل بلا رحمة ولا شفقة وسيطاردهم "زنجة.. زنجة.. دار.. دار." وربما يكون قد حدد نهايته بهذه الكلمات. فبعد أيام وافق مجلس الامن التابع للامم المتحدة على قرار يفسح الطريق أمام حملة جوية يشنها حلف الاطلسي عطلت قواته الجوية ودباباته ومدفعيته الثقيلة. واستهدفت الغارات كذلك مقر قياداته في طرابلس. وقتلت غارة ابنه الاصغر وثلاثة من أحفاده. ولم تكن هذه هي المرة الاولى التي يقتل فيها الغرب أحد أفراد عائلة القذافي. فقد وصف الرئيس الامريكي الاسبق رونالد ريجان القذافي بأنه "كلب مسعور" وأرسل طائراته الحربية لتقصف مجمع باب العزيزية في عام 1986 بعد تفجير مرقص في برلينالغربية ألقيت بالمسؤولية فيه على ضباط مخابرات ليبيين. وترك القذافي المبنى الذي قصف في طرابلس في الغارة دون ترميم طيلة 25 عاما ليلقي منه أول خطاباته المتحدية أثناء الحرب حيث وقف بجوار نصب تذكاري على شكل قبضة معدنية عملاقة تدمر طائرة حربية أمريكية. وأرسلت الحكومة الانتقالية جرافات للمجمع هذا الاسبوع لتبدأ تسويته بالارض. وأنحى القذافي في خطب أذاعها التلفزيون في وقت سابق من هذا العام ردا على التمرد باللائمة في الاضطرابات على جرذان ومرتزقة وقعوا تحت تأثير أسامة بن لادن وتأثير المخدرات. وترددت على مدى أسابيع تكهنات بأن القذافي قتل أو أصيب في غارات جوية يشنها الحلف لكنه أعد بعناية مشاهد لظهوره على التلفزيون ردا على هذه الشائعات. وسخر القذافي في مايو أيار الماضي من حلف الاطلسي قائلا ان قاذفات الحلف لن تستطيع العثور عليه. وقال في تسجيل صوتي أذيع عبر التلفزيون "أقول للجبناء الصليبيين أنا في مكان لا تستطيعون الوصول اليه وقتلي." وأذيعت كذلك كلماته اللاحقة خلال الصيف عبر تسجيلات صوتية ويفترض أن الغرض من ذلك عدم الكشف عن مكان اختبائه. وقال في احدى كلماته التي أذيعت انه لن يترك أرض ليبيا وسيموت عليها "شهيدا". ولم يشغل القذافي الذي يعد واحدا من أقدم الزعماء في العالم منصبا رسميا وعرف بلقب " الاخ الزعيم وقائد الثورة". وقاتل من أجل أن يكون له نفوذ في أفريقيا وأجزل العطاء للدول المجاورة الاكثر فقرا من الثروة النفطية الهائلة لبلاده ووصف نفسه بأنه "ملك ملوك أفريقيا". وكان حبه للفتات الكبيرة التي تشد الانتباه واضحا في زياراته للخارج حيث نام في خيمة بدوية يحرسها عشرات من الحارسات. والقت دعوته لمئات الفتيات الايطاليات الى اعتناق الاسلام بظلالها على زيارته لايطاليا العام الماضي التي استهدفت تقوية العلاقات بين طرابلس وروما. وألقت وثائق دبلوماسية مسربة نشرها موقع ويكيليكس مزيدا من الضوء على تفضيلات الزعيم الليبي المخلوع. وتصف برقية نشرتها صحيفة نيويورك تايمز اصراره على الاقامة في الطابق الارضي عندما زار نيويورك في عام 2009 لحضور اجتماعات الجمعية العامة للامم المتحدة وما تردد عن رفضه أو عدم قدرته على صعود أكثر من 35 درجة من درجات السلم. وتردد أيضا أن القذافي كان يعتمد اعتماد كبيرا على أربع ممرضات أوكرانيات من بينهن امرأة توصف بأنها "شقراء مثيرة". وتكهنت البرقية بعلاقة رومانسية ولكن الممرضة جالينا كولونيستكا (38 عاما) فرت من ليبيا بعد أن بدأ القتال. وولد القذافي في عام 1942 لاسرة رعوية بدوية في خيمة قرب سرت. وترك دراسة الجغرافيا في الجامعة ليلتحق بالجيش وتضمن سجله العسكري فترة قصيرة أمضاها في مدرسة الاشارة التابعة للجيش البريطاني. وتولى العقيد القذافي السلطة في انقلاب عسكري غير دموي عام 1969 أطاح بالملك ادريس. وصاغ القذافي في السبعينات "النظرية العالمية الثالثة" وهي طريق وسط بيين الشيوعية والرأسمالية كما قدمت في "الكتاب الاخضر". وأشرف على التنمية السريعة في ليبيا التي لم يكن يعرف عنها سوى أنها ابار للنفط وصحراء وقعت فيها معارك ضخمة بالدبابات أثناء الحرب العالمية الثانية. ويدفع الاقتصاد الليبي الان ثمن الحرب والعقوبات. وكان من بين المهام الرئيسية الاولى بعد توليه السلطة بناء القوات المسلحة لكنه أنفق مليارات الدولارات من دخل النفط كذلك على تحسين مستويات المعيشة مما أكسبه شعبية لدى محدودي الدخل. وضخ القذافي أيضا أموالا طائلة في مشروعات عملاقة مثل بناء مصنع للصلب في مدينة مصراتة التي كانت مسرحا لقتال ضار وعلى النهر الصناعي العظيم وهو مشروع استهدف ضخ المياه من الابار الصحرواية الى المجتمعات الساحلية. وتبنى القذافي دعوة الزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر للوحدة العربية وحاول دون أن تكلل جهوده بنجاح توحيد ليبيا ومصر وسوريا. كذلك انتهت بمرارة محاولة مماثلة لتوحيد ليبيا وتونس. وغير في عام 1977 اسم دولته ليصبح الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى وسمح للناس بالتعبير عن ارائهم في مؤتمرات شعبية. ولكنه كان منبوذا طوال فترة حكمه من الغرب الذي اتهمه بأن له صلات بالارهاب وبالحركات الثورية. وأصبح القذافي مكروها بشكل خاص بعد تفجير طائرة ركاب أمريكية في عام 1988 فوق بلدة لوكربي الاسكتلندية على أيدي ضباط مخابرات ليبيين قتل فيه 270 شخصا. وفرضت الاممالمتحدة عقوبات على ليبيا في عام 1992 للضغط على طرابلس لتسليم ليبيين يشتبه في ضلوعهما في تفجير الطائرة. وأصابت العقوبات الاقتصاد الليبي بالشلل وأضعفت الروح المعنوية للقذافي وخففت من حدة خطابه المعادي للرأسمالية والمعادي للغرب. وتخلى القذافي عن برنامجه لانتاج أسلحة محظورة في عام 2003 لاعادة ليبيا لحلبة السياسة الدولية.