الحمد لله رب العالمين له الحمد في الأولى والآخرة لامعبود حق سواه هدانا لصراطه المستقيم وأبان لنا شرائع الدين وصلى الله وسلم على الهادي الأمين وقائد الغر المحجلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ... أما بعد : إن الله تعالى خلق الخلق لأمر عظيم جليل فقال تعالى : ( وماخلقت الجن والانس إلا ليعبدون ) سورة الذاريات ، أي : ليوحدون ، فالهدف والغاية من خلق الانسان توحيد رب العالمين وعبادته وفق ماشرعه لنا سبحانه وتعالى في كتابه الحكيم وعلى لسان رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم . وإن الناظر لحال كثير من الناس في هذا الزمان الغريب ليرى منهم انشغالهم بالدنيا فأخذت كل وقتهم فهذا مشغول بالشبكة العنكبوتية وهذا مشغول بالواتساب والمراسلة وهذا وهذا ، ونسوا وتغافلوا عن الحقيقة المرة التي لابد لكل إنسان أن يمر بها ( وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ماكنت منه تحيد ) سورة ق ، فترى بعضهم يصبح على الرسائل وينام عليها فأهمل زوجته وأبناءه وحدث الفساد في البر والبحر وخرجت المرأة عن حياءها وأصبحت تقلد الكافرات في كل شيء فإلى الله نشكو حالنا وقلة حيلتنا ، النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا عن حال هؤلاء الذين جعلوا الدنيا همهم وتركوا الآخرة : عن أنس رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه و جمع له شمله و أتته الدنيا و هي راغمة ، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه و فرق عليه شمله و لم يأته من الدنيا إلا ما قدر له " . رواه الترمذي وصححه الشيخ الألباني في " صحيح الجامع " قال ابن القيم رحمه الله : إذا أصبح العبد وأمسى وليس همه إلا الله وحده تحمّل الله عنه سبحانه حوائجه كلها، وحمل عنه كلّ ما أهمّه، وفرّغ قلبه لمحبته، ولسانه لذكره، وجوارحه لطاعته ، وإن أصبح وأمسى والدنيا همه حمّله الله همومها وغمومها وأنكادها ووكَلَه إلى نفسه ، فشغل قلبه عن محبته بمحبة الخلق ، ولسانه عن ذكره بذكرهم، وجوارحه عن طاعته بخدمتهم وأشغالهم، فهو يكدح كدح الوحوش في خدمة غيره.. فكلّ من أعرض عن عبودية الله وطاعته ومحبته بُلِيَ بعبودية المخلوق ومحبته وخدمته. قال تعالى : { ومن يعْشُ عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين } . الزخرف / 36 " الفوائد " ( ص 159 ) . كم سمعنا وقرأنا عن حالات انتهكت فيها العفة والحياء وطعن في الطهر والنقاء فلا حول ولاقوة إلا بالله . فلايحزن المؤمن والمؤمنة مما يرى ويسمع من هذه الأمور العظيمة التي تقض مضاجعه وتؤلمه فهي ابتلاء من الله لعباده المؤمنين قال تعالى : ( فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لايوقنون ) الروم : 60 قال ابن سعدي رحمه الله تعالى : ( فَاصْبِرْ ) على ما أمرت به وعلى دعوتهم إلى اللّه، ولو رأيت منهم إعراضا فلا يصدنك ذلك. ( إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ) أي: لا شك فيه وهذا مما يعين على الصبر فإن العبد إذا علم أن عمله غير ضائع بل سيجده كاملا هان عليه ما يلقاه من المكاره ويسر عليه كل عسير واستقل من عمله كل كثير. ( وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ ) أي: قد ضعف إيمانهم وقل يقينهم فخفت لذلك أحلامهم وقل صبرهم، فإياك أن يستخفك هؤلاء فإنك إن لم تجعلهم منك على بال وتحذر منهم وإلا استخفوك وحملوك على عدم الثبات على الأوامر والنواهي، والنفس تساعدهم على هذا وتطلب التشبه والموافقة وهذا مما يدل على أن كل مؤمن موقن رزين العقل يسهل عليه الصبر، وكل ضعيف اليقين ضعيف [ العقل ] خفيفه. فالأول بمنزلة اللب والآخر بمنزلة القشور فاللّه المستعان. اه ولايغتر المؤمن والمؤمنة بأصحاب الشهوات المفسدين وماهم عليه من المعاصي فإنهم والله في حسرة وندامة وإن أظهروا كذبا ً مايدعونه ( سعادة ) ، كيف يكون في سعادة من عصى ربه واجتر على محارمه ، كيف تكون في سعادة من تدعي السعادة وقد خانت أهلها وطعنت في شرفها وغدرت بأعز الناس لها ، كيف تكون في سعادة من أهانت نفسها وأصبحت ألعوبة بأيدي الرجال ومايسمونه زيفا ً بالحب والصداقة الآثمة المحرمة ، كيف يكونون هؤلاء في سعادة إنهم في شقاء وتعاسة بل إنهم لم يذوقوا طعم السعادة الحقيقية التي هي قبل السعادة الأبدية في جنات النعيم ( إن الأبرار في نعيم وإن الفجار في جحيم ) سورة الأنفطار . صبرا ً أيها الغرباء : فإلى كل من ضاق صدره واشتد به ألمه من رؤية المعاصي وكثرة المفسدين وغربة الصالحين وإلى كل من ذرفت عيناه حزنا ً على تمرد النساء وترك الحياء والعفاف لا تحزن أخي ولا تحزني أخية فإن الله تعالى حكيم عليم سجزي كلا ً بما عمل وسوف يسأل المرء عن كل شيء ( فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون ) سورة الحجر . وأسأل الله تعالى الحي القيوم أن يجعلنا من عباده المتقين العاملين وأن يحشرنا في زمرة الأنبياء والمرسلين وأن يتوفنا وهو راض عنا وأن يختم بالصالحات أعمالنا إنه سميع عليم مجيب الدعوات لا إله حق سواه . ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ) سورة الكهف