ستينات القرن الماضي كانت التربة الخصبة لعبور القومية والقوميين العرب لعقول وقلوب الكثيرين ولسدة الحكم في العديد من الدول العربية ، بسبب المد الصهيوني نحو فلسطين والمنطقة وتقوقع أو اضمحلال البعد الإسلامي وبعده عن أحداث وتطورات القضية الفلسطينية والقضايا الكثيرة المصيرية . فالقومية التي كانت عنوان تقدم وحضارة ورقي وواجهة وقوف أمام المد والتقدم الصهيوني نحو فلسطين والدول العربية شرق المتوسط وبشمال أفريقيا كما اعتقد الكثير من الشعوب العربية التي آمنت بها واحتضنتها ، كانت هي ذاتها أول وآخر ضحاياها بعد انتقالها من مفهوم وطني وقومي عربي شامل كخيار ممكن له تحقيق التعادل مع القومية الصهيونية ، إلى حديقة ومرتع ومغنم للأسر الحاكمة سواء بالقطر أو ببنية الأحزاب كواقع مؤلم مدموغ بالفساد لم يقدم طوال عقود من الزمن أي شيء لفلسطين ولا للأوطان التي تحكمها وتتحكم برقاب شعوبها وتصادر وتنهب مقدراتها ، حيث قوبل احتضان الشعوب للقومية والقوميين بمزيد من القمع الفكري لثقافتها وحضارتها وخصوصياتها ، وبمزيد من العصي والسياط على ظهورها ورقابها لتطاولها السياسي على فكرها ونظمها كما تتهم ، وبالرصاص على قلوبها المليئة بحب الأوطان المخلوط بحب القيادات الملهمة التي لم تقابل الود والحب والوفاء بالإحسان والمصداقية والإخلاص . وطوال أربعة عقود من الزمن التي تلت فظائع الاستعمار لم تستطع هذه النظم العربية الجمهورية الطابع القومية الهوى من تنفيذ استراتيجيات تنموية وإصلاحات سياسية وممارسة عدالة اجتماعية ، وإعطاء حوافز اقتصادية لمواطنيها التي مما من شك أنها صبرت عليها طويلا رغم انكشاف أمرها واكتشاف أخطائها وفسادها ، وحيث كل المؤشرات تدل على أنّ الظرف الزمانكاني الذين حماها وتركها جاثمة فوق صدور شعوبها هو الذي سيزيحها ويريحه الشعوب المقهورة منها . وجريمة الأنظمة العربية الجمهورية بشقيها التقدمي أو المعتدل التي انتقلت أو اقتربت بالانتقال من الجمهوريات الدستورية المعطلة له إلى التوريثية الدكتاتورية اللاغية له ، أنها لم تقف عند حد القمع والبطش والقتل وحشر المعارضين بالسجون المظلمة الباردة والتي إن كتب للخارج منها الحياة فإنه لن تكتب له الصحة حيث معاناته من سلسلة أمراض نفسية وجسدية تبعده عن الإبداع والمشاركة بالحياة من جديد ، فجريمتها كانت بحق كل القوى والأحزاب والشخصيات الوطنية الأخرى التي يتشكل منها فسيفساء الشخصية الوطنية في الدول المعنية ، حتى لتلك اللاعبة في ساحتها وملعبها والعاملة لأجل الحزب الحاكم الملهم ، مما خلق فراغا كبيرا بين الحاكم والمحكوم وبين الرعية بقواها وعناصرها وطبقاتها ، وبين الأحزاب وقواعدها ومجتمعاتها . لم تنفد من عمليات وسياسة القمع إلا جماعة الإخوان المسلمين كتنظيم نأى بنفسه عن السلفية بأشكالها والتصاقه حسب المصلحة والهدف بالعديد من الأحزاب العلمانية وصولا للماركسية ، وهو ما مكنها من الاستمرارية ومقاومة الظاهر من عمليات البطش التي مورست ضدها دعائيا مع اللمسات الحقيقية أحيانا ، فمراكزهم الثقافية والاجتماعية والاقتصادية ونشاطاتهم بالمواضيع ذات الصلة التعبوية والدعوية مكنتهم من الاستمرار بتشكيل المنحنيات التصاعدية الأفقية والعمودية ، حتى غدت الجماعة من أكثر التنظيمات وأقواها ماليا وتنظيميا وتأثيرا . وتحت شعار إعداد النشء للمستقبل من أجل الحكم الراشد وأمر الرشد وهو الشعار الذي لم تنتبه إليه مجموعات الأنظمة والأحزاب سواء المؤيدة أو المعارضة لها لانشغالهم بشعار سياسي بديل طرحه الإخوان للإلهاء وللاستهلاك المحلي ( الإسلام هو الحل ) ، عملت الجماعة ردحا طويلا من الزمن لبناء التنظيم والإعداد لمثل هذه اللحظة التي يمر بها الوطن العربي والتي أسميت غربيا ( الربيع العربي ) . إلا أن الجماعة لم تستطع أن تنفذ إستراتيجيتها الجديدة المقبولة غربيا إلا من خلال التفاهم بين الأقطاب الغربية الخائفة كثيرا من إعادة تجربة الإسلاميين بالحكم بعد خروج طالبان والقاعدة عن الكف الأمريكية بعد هزيمة الاتحاد السوفييتي في أفغانستان ، وتنفيذهم لهجومات سبتمبر وممارستهم لفظائع فكرية من وجهة نظر الغرب تمثلت بمحاولة نسف تمثال بوذا ومفهومه الذي يعني صورة من صور واقع التعايش الفكري والديني بين الشعوب والتقارب بين الحضارات ، وهو الحدث الذي رفضته جماعة الإخوان لتجميل دورها القادم وتوضيحه ، وتدخل القرضاوي بوصفه الأب الروحي الجديد لهم لمحاولة منع حدوثه خوفا من تأثيراته سلبا على الخطط الإستراتيجية المقبلة للجماعة . وبغزو إسرائيل لجنوب لبنان وحربها الشهيرة مع حزب الله 2006م ، أعادت أمريكا طرح ورقة مشروع الشرق الأوسط الجديد الخالية من الأنظمة القمعية الجمهورية بنوعيها المؤيد للغرب أو المعارض له ، دون دراسة وافية ومستفيضة ودون معرفة لمواقف الكثير من القوى والأحزاب بالمنطقة العربية ، وخاصة لمعرفتها بعدم وجود قيادات تصلح لإدارة المنطقة تصلح لإشغال الحيز الذي سيخلفه إزاحة الأنظمة الشمولية . وفي العام 2007م ولتفعيل المخطط الاستراتيجي الأمريكي للاستفادة من أحداثه الملتهبة ، بدأ التفكير جديا بالطريقة والإمكانية لقلب الكثير من الأنظمة الحاكمة بالمنطقة عسكريا وبالضغط السياسي وإدخال المستعصي منها بالفوضى الخلاقة ، خاصة بعد حرب إسرائيل على غزة التي وقعت نهاية العام ، والرسالة الشهيرة التي سلمتها حماس لوفد الشيوخ الأمريكي الذي زار إحدى مدارس وكالة الغوث التي طالها القصف الإسرائيلي في قطاع غزة ، والتي تبدي فيها استعدادها للحوار مع أمريكا وللقبول بالمصالح الأمريكية بالمنطقة ولفك ارتباطها مع كل من سورية وإيران ، حيث وقع الاختيار على قطر كدولة بديل لإسرائيل بعد فشل الأخيرة وهزيمتها في لبنان ، ولكراهية الشعوب العربية ورفضها لها ككيان وكدور ، كما ووقع الاختيار على إعلامها المتخصص ورأس حربته قناة الجزيرة التي سجلت نجاحا مدهشا بقدرتها على التأثير على الرأي العام العربي أولا ومن ثم قدرتها على تشكيله بأقل من عشر سنوات على تأسيسها والذي كان بالعام 1996م ، حيث تم تأسيس غرف سوداء بقناة الجزيرة على اتصال مباشر بمكاتب متخصصة بالخارجية والمخابرات القطرية والتي هي بدورها على اتصال بالدوائر ذات الصلة في الغرب وإسرائيل، ويعمل فيها خبراء عرب وإسرائيليين إستراتيجيين في مجلات السياسة والحرب وعلم الاجتماع والفكر ، ويقودها مندوبين غربيين يعملون تحت ستار التحرير الإخباري . وكشرط قطري للقبول بالدور المنوط بها قدمت حركة حماس كبديل ممكن للسلطة الوطنية الفلسطينية التي نواتها حركة فتح مع ضمانات قدمتها قطر بعد لقاء المسؤولين الأمنيين القطريين بخالد مشعل بخروج حماس من المحور السوري الإيراني ، وقدمت الإخوان على أنهم البديل المناسب والمضمون لإشغال حيز التغيير المقلق للولايات المتحدةالأمريكية ، حيث ولزيادة التأكيد على وجهة نظرها عملت على تحقيق معادلة إخراج حماس من معادلة الممانعة السورية الإيرانية ، وعلى تحقيق معادلة إدخال تركيا ( حزب العدالة والتنمية ) في حلف التغيير المؤيد للغرب ، بوصفه صاحب تجربة إسلامية بالحكم لم تتعرض للمصالح الغربية ولا للدولة المدنية التركية ، وباعتبارها التجربة الإسلامية الفريدة المعترف بها الناسخة لتجربة حكم الإخوان في غزة التي اصطبغت بالدموية وعدم احترام حقوق الإنسان . فالقرن الواحد والعشرين ومنذ بداية فصل الربيع العربي كما أسمته أمريكا ، سيكون التربة الخصبة لصعود الإسلاميين العرب للحكم بمختلف أحزابهم وأفكارهم بتأييد و مباركة ويد القوميين العرب وغيرهم من الأحزاب العلمانية ، والمتوقع ولقبولهم دوليا وشعبيا ولضغوطات الطرفين الهائلة والكثيفة أن يحترموا مقومات الدولة المدنية والديمقراطية لفترة قد تمتد لعقد من الزمن وهي فترة تحتاجها أمريكا للدفع بيهودية دولة إسرائيل ولإفشال المسعى الفلسطيني بالدولة المستقلة المعترف بها دوليا ، تعود بعدها الدكتاتورية بأبشع صورها لتنال من المواطن العربي العادي والحزبي ، حيث ستعود تهم ميزت القرون الوسطى كالزندقة ليرمى بها المعارضين لتسهيل وتبرير التخلص منهم ، كما هي تهمة العمالة والجاسوسية التي ميزت القرن العشرين وكانت السلاح بيد القوميين منذ ستينات القرن الماضي لتسهيل وتبرير التخلص من المعارضين . محمود عبد اللطيف قيسي