بسم الله الرحمن الرحيم رغم عذابي خرجت منتصرا قال ابن زيدون : إني ذكرتك بالزهراء مشتاقا والأفق طلق ومرأى الأرض قد راقا وللنسيم اعتلال في أصائله كأنه رق لي فاعتل إشفاقا لقد كان ابن زيدون في نزهة بالزهراء بعدما صفا جوه النفسي , والطقس ممطر , والأطيار مغردة والورود متقتحة , ومرأى الأرض وهي ترتدي ثوبها الأخضر المرصع بالأخضر والأحمر والأصفر الوردي مرآها يفتح النفس , ويبهج الفؤاد , في هذا الجو الربيعي تذكر ابن زيدون ولادة وحبهما , فقال قصيدة رائعة كان البيتان السابقان مطلعا لها . فإن كان ابن زيدون يذكر ولادة في يوم الفرح والسرور , والجو الخلاب , فماذا أقول أنا عن ذكرياتي وكيف أصفها . أركب سيارتي سائرا في أحد الطرق , فأنسى الطريق والمقود , والسبب تلك الصورة التي برزت أمامي , وقد سبح معها خيالي متذكرا أيامه الخوالي . أرى الهاتف فتبرز صورتك أمامي , وأتذكر تلك الآهات والأنات التي خرجت من صدري عبر سماعته تناديك وتناجيك . أسمع أغنية عبر الأثير وجهاز التسجيل , فأتخيل نفسي الشاعر الذي قال كلماتها , والفنان الذي غناها لك , فأحس بأن جميع الشعراء قد قالوا قصائدهم بمشاعري , والفنانين قد غنوا بأحاسيسي وترنموا بها أوي إلى فراشي للمبيت , وأضع رأسي على وسادتي , فأتذكرك وأتذكر تلك الدموع الساخنة التي سالت منها وسادتي مرارا وتكرارا , فأفز من نومي وقد عرض لي طيفك في منامي فيطير النوم من عيوني , وأتقلب يمنة ويسرة علّى أنام ولكن هيهات فالذكرى تؤرقني . أمشي في الشوارع والطرقات , وفي البراري , فأتذكرك , فجميع المعالم تحكي عنك , وكم مررنا بها والتقينا فيها . أقرأ اسمي أو اسما مشابها له , فأتذكرك , وأتذكر كم مرة نطقت وناديتي به . أرى صورتي وأرى تلك الأخاديد التي حفرتها الدموع في وجهي بسببك , فتمطر عيوني من جديد . أرى الشمس , فكلما شعت تذكرت بزوغ شعاع حبنا , وكلما غاب شعاعها تذكرت كيف غاب شعاع الحب عني وانتهى . أتذكرك , وأذكرك بين كل لحظة وأخرى , ومع ذلك أتذكر ابن زيدون وذكرياته مع ولادة , وأتساءل : ما لفرق بيني وبين ابن زيدون ؟ ذهبت أبحث في أمهات الكتب ومراجع الأدب التي تحكي عن ابن زيدون وولادة , لأغوص في أعماقها , وألم بقصة ابن زيدون وذكرياته , وعملت المقارنة , مقارنة الذكريات بيني وبين ابن زيدون , وخرجت بالنتيجة من بحثي هذا وهي أن ابن زيدون كانت له مع ولادة ذكريات أليمة وحزينة , وذكريات أخرى حلوة مفرحة , فتعادلت كفتا الميزان عند ابن زيدون كفة الفرح , وكفة الحزن , فصار لا يتذكر ولادة إلا في مواقع ومناسبات معينة , أما أنا فذكرياتي معك كلها حزينة وأليمة , فكل ذكرى تقربني للموت ألف ألف مرة , فكل ذكرياتي معك كلها عندما أتذكرها أموت حزنا سوى ذكرى واحدة فقط عندما تمر بخيالي أفرح , وأنتعش سرورا ألا وهي : عندما أتذكر أنني خرجت من تجربتي معك منتصرا فائزا . قد تتفاجأين , وتستغربين , وتتساءلين : أي نصر ذاك الذي أحرزت ؟ فأقول أنه بسبب الله ثم بسببك صرت أديبا , فقسوتك وظلمك وجبروتك , وطغيانك وعذابك وخيانتك , كل هذه وما سببته من مآس لي أوقدت بداخلي نار الموهبة وأسعرتها , فصرت أكتب شعرا ونثرا وخواطر تحكي عن الألم , والعذاب والظلم والقسوة والخيانة وتحاربهم , فلو وجدت منك الأمن والهدوء والوفاء والاستقرار , لبقت نار الموهبة بصدري خامدة لا تجد من يشعلها , وهذا حال جميع الأدباء و الشعراء والفنانين . فالألم , والحزن , والندم , والحسرة هن منبع الموهبة , وهن الوقود الذي يسعرها , فتخرج من الصدور لتحاكي المجتمع والبشر على مر العصور . فلك مني الشكر خالصا من القلب لأنك أشعلت نار الموهبة بداخلي وأسعرتيها .