أكد رئيس محكمة الاستئناف بمنطقة الرياض الشيخ عبدالعزيز بن صالح الحميد أن صلاح الأمة ورقيها منوط بصلاح القضاء، فالقضاء القوي العادل هو صمام الأمة من خلال إقامة الحق ومجازة المعتدين ونشر الأمن ورفع الظلم، وفي المقابل أن فساد القضاء من أقسى الكوارث التي تحل بالمجتمع فإنه إذا حصل ذلك - لا قدّر الله - يفقد الأمن والاستقرار وينتشر الظلم ويعم الفساد في كل أركان المجتمع، ولذلك اهتم الإسلام بصلاح القضاء وسلامته من كل زيغ وانحراف، جاء ذلك خلال محاضرة "الحميد" المعنونة ب " الأنظمة العدلية وأثرها في إنجاز العدالة " التي نظمها " منتدى العُمري الثقافي " بمدينة الرياض، وأدارها الشيخ عبدالمجيد بن محمد العُمري وشهدت حضور عدد من أصحاب الفضيلة المشايخ القضاة والمحامين وعدد من رجالات الفكر والأعمال والإعلام والمثقفين. وأكد الشيخ الحميد أن المنظومة العدلية في المملكة تطورت ووصلت إلى هذا المستوى الذي نعيشه ونتطلع إلى مستقبل أفضل، مشيراً إلى التطور التاريخي للقضاء منذ توحيد المملكة على يد الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود - رحمه الله -، وأن ما يقال عن قضاء المملكة في السابق بأنه خالي من مرجعية نظامية فغير صحيح، والمملكة تؤكد على اهتمامها بالنظام القضائي منذ توحيدها، ومع كل تطور تظهر الحاجة إلى مراجعة الأنظمة القضائية لتواكب التطور في كافة المجالات، وما تفرضه العلاقات الدولية من تساؤل حيال الحاجة الماسة إلى وجود مرجعية نظامية للقضاء، وهذا ما يتعلق بالأمور الإجرائية. أما ما يتعلق في الموضوع فهو ثابت لا يتغير لأن المملكة أخذت على عاتقها أن الأحكام تستمد من الشريعة الإسلامية وفق الكتاب والسنة وهو ما نص عليه في نظام الحكم.
وتناول رئيس محكمة الاستئناف بمنطقة الرياض الأوامر الملكية المتلاحقة المتعلقة بتطوير القضاء، بالموافقة على نظام القضاء، ونظام ديوان المظالم، والتأكيد على استقلالية القضاء حيث جاءت في المادة الأولى ما نصه: " القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير أحكام الشريعة الإسلامية والأنظمة المرعية وليس لأحد التدخل في القضاء " .
واستعرض الشيخ الحميد أبرز ملامح هذا النظام ومنها إنشاء المحكمة العليا، وإنشاء محاكم استئناف في كل منطقة، وإنشاء محاكم متخصصة لأول مرة وهي كالتالي: محكمة الأحوال الشخصية، والمحكمة التجارية، والمحكمة الجزائية، والمحكمة العامة، ومحاكم العمل والعمال، ومحاكم المرور.
ومن خصائص النظام أن جعل لكل محكمة صلاحيات محددة، ومن فوائده تفرغ القاضي فيما ينظر إليه بدلاً من جعله ينظر قضايا متعددة مما يفتح له المجال للإبداع.
ومما صدر - أيضاً - نظام الهئية العامة للولاية على أموال القاصرين، وهذا النظام يعد نقلة نوعية وكبيرة، فقد نظم مصالح القصر وحمى أموالهم، بل جعل الهيئة مرتبطة بوزير العدل مباشرة فهو رئيسها، بل قد خصها النظام باعتبارها هيئة تأكيداً على العناية والاهتمام، إضافة إلى ما صدر من مراسيم ملكية بالموافقة على أنظمة المرافعات الشرعية، والإجراءات الجزائية، والمرافعات أمام ديوان المظالم.
وأكّد الشيخ الحميد مجدداً أننا انطلقنا من مبادئ راسخة وثابتة لم تتغير منذ توحيدها على يد جلالة الملك عبدالعزيز - رحمه الله - ، وذلك بالرغم من إدخال الكثير من النظم الإجرائية وقد تكون مستقاة من نظم سبقتنا، ولكن من ناحية الموضوع فنحن ثابتون ولا نتزحزح عنه، ونقصد بهذا تحكيم الشريعة الإسلامية في كل قضائنا، وهذه مسلمة دستورية نصّ عليها النظام الأساسي للحكم، فهي مرتكز كيان الدولة وأساسه الثابت، كما أن أنظمتنا العدلية بعد تكاملها، وبعد تفعيل المحاكم المتخصصة ستنقل المملكة نقلة حضارية في مجال تحقيق العدالة، وفض النّزاع والخصومة بأسرع وقت، كما إن من توابع تطورنا القضائي نشر المبادئ والسوابق القضائية، وكذلك تدوين الأحكام القضائية بنوعيه، الأول: المتعلق بنشر الأحكام المجردة وتختص فيه وزارة العدل، والثاني: المتعلق بالتدوين التشريعي وتختص فيه الجهة التشريعية.
وأعلن الشيخ عبدالعزيز الحميد أنّه سيصدر قريباً من محكمة الاستئناف بالرياض بعض من قرارات تدقيق الأحكام منذ تأسيسها عام 1381ه، وأسند هذا الأمر إلى كادر قضائي متخصص، وقد صدر بذلك قرار من المجلس الأعلى للقضاء، ومن فوائد هذا المشروع تعريف القاضي الابتدائي بالمبدأ الذي يسير عليه، وتثقيف مؤسسات المجتمع المدني لمعرفة توجّه المنظّم تجاه بعض المسائل، وترسيخ المبادئ الفقهية النظرية، ومعرفة فنيات الصياغة القضائية وبنيتها، وفهم لغة الحكم وصياغته وألفاظه، وذكر القاعدة الفقهية والتطبيق عليها، وبيان التطبيق القضائي من خلال المثال، وذكر عيوب التسيّب القضائي.
زيادة الكادر القضائي وأوضح الحميد زيادة أعداد الكادر القضائي من ناحية الكم والكيف، فقد زاد عدد القضاة خلال أربع سنوات ما معدله 55%، وزاد عدد كتاب العدل بمقدار 91%، ونسبة النمو في أعداد موظفي الوزارة ما يقدر ب 60%، كذلك زادت نسبة التدريب فنسبة القضاة ممن تمّ تدريبهم تقدر بحوالي 46.68%، وبلغ عدد البرامج التدريبية لعام 1435 ه خمسة وتسعون (95) برنامجاً تدريبياً حضره (2200) من أصحاب الفضيلة القضاة، مشيراً إلى قضاء التنفيذ، فصدور نظام التنفيذ من أعظم الأنظمة التي يحق لنا في الجهاز القضائي التفاخر به بل يحق لكل من ينشد العدل أن يفاخر به فلا قضاء عادل بدون جهاز تنفيذ قوي ومنظّم، فستبقى الأحكام حبراً على ورق، وستضيع الحقوق دون قضاء التنفيذ، وسيتجرّأ الناس على أكل الأموال بغير حق، وسيتعذّب الوالدان في رؤية الأولاد بدون قضاء التنفيذ، وسيتأخر الاقتصاد والنمو العمراني بدون قضاء التنفيذ، ومن هنا نجد أن نظام التنفيذ بكافة مواده هو ترسيخ للعدل، وإنصاف للمظلوم، وإيصال الحق إلى أهله بدون مماطلة أو تأخير.
وقد حوى نظام التنفيذ سبعة وتسعين مادة تجعل للأحكام الشرعية قوة ومكانة، وتحمي المجتمع من جشع المماطلين، وتوصيل الحقوق إلى أهلها، وبهذا ينعم المجتمع بقضاء قوي ينشر العدل بين الناس، وقد أعقب صدور هذا النظام صدور اللوائح التنفيذية، وبحمد الله عين في كثير من المحاكم قضاة التنفيذ، وتم دعمهم بأكثر من أربعة آلاف وظيفة، وفي نظري أن قضاء التنفيذ بعد استكمال متطلباته سيكون عاملاً مهماً في تقليص عدد القضايا الحقوقية والأسرية فإذا اشتهر في المجتمع أنّ المتلاعب، والمماطل، والظالم لن يجد باباً يلج منه للهروب مما عليه، ولا يجعل خصمه يلجأ للقضاء، وما تجرّأ الكثير من أكل أموال الناس بالباطل إلا لضعف التنفيذ، واليوم ومع هذا التطور في منظومتنا العدلية ستقل القضايا بإذن الله، وقد استردّت محاكم ودوائر التنفيذ بالمملكة خلال العام المنصرم (48.662.208.643) 48 مليار و662 مليون و208 آلاف و643 ريال، ليبلغ إجمالي ما استعاده قضاء التنفيذ منذ تاريخ إنشائه وحتى نهاية شهر محرم من هذا العام (83.556.292.434) 83 مليار و556 مليون و292 ألف و434 ريال من خلال (246.867) 246 ألفاً و867 طلباً تنفيذياً أصدرها 317 قاضي تنفيذ في مختلف مناطق المملكة. وبلغ إجمالي طلبات التنفيذ التي تلقّتها محاكم التنفيذ في المملكة خلال العام الماضي 1436ه، والتي بلغت (150.495) 150 ألف و495 طلباً، أُحيل منها (143.535) 143 ألفاً و535 طلباً، فيما بلغت الطلبات المنتهية (62.790) 62 ألفاً و790 طلباً تنفيذياً منتهياً.
وتأسّف رئيس محكمة الاستئناف من تدخل الإعلام في القضاء من وقت لآخر وإطلاق أحكاماً متسرعة قبل أن يقول القضاء كلمته، وهذا لا شك فيه خلل كبير بل هو مجرم في كثير من الدول المتقدمة، مشيراً إلى إن تدخل الإعلام في كثير من القضايا قبل أن تنظرها المحاكم سيؤثر في مجرى العدالة وسيوجع النفوس ويضعف هيبة القضاء أمام المجتمع خاصة إذا جاءت الأحكام خلاف ما ينشر من أحكام مسبقة فالرأي العام قد تغلب عليه العاطفة، وتغيب عنه كثير من الحقائق التي لا تكون إلا عند أجهزة التحقيق، وفي أروقة المحاكم الأمر الذي يولد تساؤلات قد لا تكون عادلة أو منطقية، وقد يجعل البعض يقدح في القضاء، كما إن القاضي مطلوب منه ألا يتأثر بما ينشر في الإعلام، ولكن في نفس الوقت على الكاتب أن يعلم حدوده عندما يكتب أو ينشر، وقد حذّر المنصفون، وأصحاب الرأي من تدخل الإعلام في القضايا التي تحدث في المجتمع ويجب الانتظار ليقول القضاء كلمته، وهناك قوانين عالمية تجرم الإعلام في تدخله في أعمال المحاكم حتى لا يكون هناك تأثير على مجرى العدالة.
عقب ذلك أجاب الشيخ عبدالعزيز الحميد على أسئلة الحضور، وختم اللقاء بكلمة ( لراعي المنتدى) الدكتور عبدالعزيز بن إبراهيم العُمري نوّه فيها بمضامين المحاضرة، وما تضمّنته من معلومات قيّمة عن الجهود التي تبذلها المحاكم في المملكة.