أوضح إمام وخطيب المسجد الحرام في مكةالمكرمة، الشيخ الدكتور سعود بن إبراهيم الشريم، أن هذه البلاد- حرسها- الله قد ضربت مثلاً في الصلة والتلاحم بين قيادتها وعلمائها وأفرادها، ووقفت في خضم الأحداث موقف المسؤولية والشعور بالخطر فيما لو أهمل كل واحد منا مسؤوليته، فكان ذلك البيان الشافي من هيئة كبار العلماء في هذه البلاد- حرسها الله- وكانت تلكم القرارات المشهودة الصادرة عن ولي أمرنا - حفظه الله - التي أكَّد من خلالها أن الشريعة الإسلامية هي قدر هذه البلاد، وأكّد من خلالها أيضاً مكانة العلماء وأثرهم في المجتمع بقيادتهم العلمية الداعمة للقيادة السياسية، كما لامست تلك القرارات احتياجات المجتمع والمواطن التي تفتقر إلى إصلاح وتجدّد . ودعا الله أن يجعل ذلك في ميزان الحسنات، وأن يوفّق هذه البلاد قيادة وعلماءً وشعباً إلى البر والتقوى، وأن يقيهم كل سوء وفتنة، وأن يقي جميع بلاد المسلمين شرّ الفتن ما ظهر منها وما بطن . وقال في خطبة الجمعة التي ألقاها بالمسجد الحرام: "أيها الناس من رحمة الله على عباده أن بعث رسول الهدى شاهداً ومبشراً و نذيراً وداعياً إلى الله بإذنه و سراجاً منيراً، ولقد لقي صلوات الله وسلامه عليه خالقه ومولاه وهو لم يدع خيراً إلا دلّ الأمة عليه، ولا شرّاً إلا حذّر الأمة منه". وأضاف يقول: "إن مما حذّر منه أمته الفتن التي تكون في آخر الزمن وتكاثرها وترادف حلقاتها والغواسق التي تحيط بالناس والمجتمعات من كل جانب، فتموج بهم كموج البحر، وتقع القوارع في دارهم أو قريب من دارهم على حين غرة لم تخطر على بال آمن، ولم تلُح له في أفق، فتحل الفجأة، وتعظم الدهشة والذهول لهول الأحداث والمستجدات وسرعتها حتى يتلقّاها السامع والمشاهد، ولا يكاد يسيغها؛ لأنها لم تدُر بخلده أو تقع في ظنه أن أحداثاً كونية واجتماعية وسياسية وفكرية ستحلّ فجأة على وجه التسارع والتدافع، وهذا ما يذكِّرنا بما أخبرنا به المصطفى صلى الله عليه وسلم عن أشراط الساعة وقيامها في سرعة لم تخطر على بال الأحياء إبانها كما جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه، ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي منه، ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها". وأوضح فضيلته أن كل ذلك دليل على سرعة وقوع الحدث وما يحمله من مفاجآت، وأن نفساً لا تدري ماذا تكسب غداً ولا بأي أرض تموت، وأن تعاقب الأحداث وترادفها وطلب بعضها بعضاً طلباً حثيثاً لهو من سمات هذه البرهة من الزمن الحاضر الذي بلغت فيه الحضارة المادية أوجها والغليان المعرفي والتقني قمته، ويخلق الله مالا تعلمون, ولقد صار من سرعة الأحداث والمدلهمات أن رياحها لا تتيح لأي رماد أن يجثم مكانه، ولا لأي جمرة أن ينطفئ وميضها، فتتراكم التداعيات بعضها على بعض ليخر سقف الهدوء، وتُقبل فلول الطوارق والمفاجآت في عسعسة الليل أو تنفّس الصبح، غير أن هذا كله لم يأتِ طفرة دون مقدّمات أو مسبّبات مع اتفاقنا جميعاً أن ساعة الحدوث تُعدّ مفاجأة؛ بسبب شرر وميض جمر خلل الرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، فتطاير شرره إلى قش يباس، فما هو إلا الضرام ما منه بد، مع أن أصوات صادقة وصيحات ناصحة قد سُمِعت فلم تلقَ رجع الصدى، ولم يستبن السامعون ذلك النصح إلا ضحى الغد، ولات حين مناص. وقال إمام وخطيب المسجد الحرام: "إننا في الوقت الذي يحمد الله فيه كل مسلم أو مجتمع لم تنله تلكم الأحداث والمستجدات، ولم تحل بدارهم يجب أن لا يبخلوا على أنفسهم من سؤال الله العافية والسلامة، وأن لا تمر عليهم تلكم الخطوب دون أخذ الدروس والعظة والعبرة، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "السعيد من وعظ بغيره والشقي من شقي في بطن أمه" . ومضى الدكتور الشريم يقول: "إن أحسن أحوال العظة والعبرة ما كان متزامناً مع سببها؛ لكون الاستعداد النفسي أبلغ في مقابل قوة الحدث وإلا وقع السهو والنسيان, كل ذلك لتكون العظة والعبرة داعية إلى الاستباق للأمن من الوقوع في مثلها، أو بعبارة العصريين: الوقاية خير من العلاج، أو ما يسمى بالأمن الوقائي أو بالعبارة الشرعية الأصيلة: الدفع أولى من الرفع، وأن مما يتفق عليه العقلاء جميعاً أن منع وقوع الشيء المكروه خير وأولى من رفعه بعد وقوعه". وبيَّن أن شريعتنا الغراء جاءت حاضّة على المبادرة والمسارعة بالأمور الدافعة للمكاره قبل أن تحلّ بالمرء والمجتمع، فمن ذلك قوله تعالى: {وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون} . وأردف الدكتور الشريم يقول: "ومما يدل على رعاية الشريعة وحضها للوقاية والمبادرة والحذر ما جاء من قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يورد ممرض على مصحّ", لأن مبدأ الوقاية خير من العلاج، ولأنه مبدأ شامل لكل شؤون الحياة، وأن من الخطأ الصريح قصره على المجال الصحي فحسب، بل إنه يمتد إلى المجال الغذائي والعلمي والفكري والإعلامي والاقتصادي والسياسي على حدّ سواء، وأن الجهد الذي يبذل في الوقاية ينبغي أن يكون أسبق، وأن ينال اهتمام جميع الفئات في المجتمع بصورة أكبر مما يُبذل في العلاج، وهنا مكمن شعور كل فرد مسلم وإدراكه للعواقب والتوجسّ من المدلهمات". وأفاد إمام وخطيب المسجد الحرام أن الشريعة الغراء إذا كانت قد حضّت على المبادرة بالأعمال، فإن هذا لم يكن قاصراً على جهة دون أخرى، بل إنه يشمل الفرد والأسرة والعامي والعالم والسياسي والمفكّر وأمثالهم ممن هم صورة المجتمع وتكوينه؛ إذ من الخطأ قصره على جهة دون أخرى كأن يقصر على القيادة فقط أو العلماء فحسب، كلا فلحمة المجتمع والشعور بالواجب تجاهه مهمة الجميع، والحرص على حمايته من أي داخلة فيه انتماء إيجابي يدل على الأمانة الحقة في سيبل الاجتماع على الحق والخير والتعاون على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان، ليتم السير بسفينة المجتمع إلى بر الأمان بعد الخروج بها من ظلمات البحر اللجيّ الذي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب". وأردف يقول: "إن ذهول الكثيرين منا تجاه ما يقع في هذه الآونة من مستجدات لم يكن عائداً إلى تدنٍّ في مستوى ذكاء عموم المجتمعات أو لضعف في آليات الإنذار المبكّر بقدر ما كان سبب إهمال مبدأ الوقاية وتوفير أسبابها واستحضارها واستحضار حكمها؛ لأن الإفراط في الأمن من المتغيرات هو مكمن الخوف والخطر، كما أن الحذر المفرط مكمن للجمود والبلادة وتأخّر المسير وخير الأمور في ذلكم الوسط" . وأكّد الدكتور الشريم أن عدم الوعي التام بقيمة الوقاية من قبل العموم ومدى تقديرهم لحجم وطبيعة متطلبات الوقاية هو سبب تحمّل وقوع الشيء ومن ثم علاجه، وكلا الأمرين بعد عن الواقع وبرود في التعامل مع المتغيرات بما من شأنه دعم عجلة المدلهمات عن الوقوع أو على أقل تقدير الإبطاء بها إلى حين وضع السياج الأمن الذي يحمي من خطر وقوعها إن هي وقعت، فضلاً عن أن الشعور بوجود عصا سحرية لديها الاستعداد على دفع كل شيء إنما هو شعور متولّد من لا شعور؛ لأن الفائدة من الوقاية هي التطلّع إلى وضع أفضل أو التخلص من وضع أسوء؛ لأن أي أحد منا لن يستطيع إصلاح عجلة الطائرة بعد إقلاعها . وبيّن إمام وخطيب المسجد الحرام أنه إذا اتفقنا على ضرورة الأخذ بمبدأ الوقاية والإقرار به، فإن المشكلة حين إذ لن تكون في كيف نقي أنفسنا، وإنما هي في متى نقي أنفسنا ومجتمعنا؛ لأنه متى دبّ في النفوس داء التسويف والتأجيل فإن القابلية للمفاجآت والطوارق أشدّ تواجداً . وحذَّر من أن يتسلّل البعض لواذاً بداء التسويف في زمن يتحتم فيه العزم والعمل على التهذيب والتربية على مبدأ الوقاية الذي ينقل من السوء إلى الحسن ومن الحسن إلى الأحسن، وإذا كانت الغاية نبيلة، فإن مبدأ الوقاية سيكون محوره العدل في جميع السبل، فلا يمكن أن يتجاوز جمهور الناس في عملهم ما يسمون به حقاً للغير، وسيكون المصبّ الأخير في القيمة المطلقة التي تؤلّف بين أفراد المجتمع الواحد في منظومة واحدة، يعمها معيار واحد؛ ليؤدي كل منهم عمله؛ لبقاء البنية الجامعة للمجتمع الواعي بلا فتوق كل في مجال عمله وتخصصه وما انتهى إليه علمه . واختتم الدكتور سعود الشريم خطبته بالقول: "إن أي أمة يكون الواقي والدافع فيها بنوها من أفرادها إلى قادتها، ويكون كل واحد منهم آخذاً بحق الكل لا يقصد مقصداً بعكس مقصد السواد الأعظم ولا غاية تميل به عن غايتهم، فهي الأمة التي علا فيها التكامل وحسن الانتماء وتحقيق المصلحة المشتركة التي يسعى بذمتهم فيها أدناهم" . وأوضح فضيلة إمام وخطيب المسجد النبوي، الشيخ علي الحذيفي، أن جماع الخير كله الأعمال الصالحات، وجماع الشر كله الأعمال السيئات، فهل شقي بطاعة الله أحد؟ وهل سعد بمعصية الله أحد؟ فقد جعل الله تعالى الجنة ثواباً لفعل الخيرات وترك المنكرات، وجعل النار عقاباً لفعل المنكرات وترك الخيرات، ولقد جعل الله سبحانه وتعالى الأعمال الصالحات أسباباً لكل خير في الدنيا والآخرة. وقال في خطبة الجمعة التي ألقاها في المسجد النبوي: "إنه يجب على المسلمين أن لا يزهدوا في أي عمل صالح، وأن يحرصوا على فعل الخير في كل وقت، وأن المسلم إذا أدّى الفرائض، واكتسب ما تيسّر من أعمال البر فهو علي سبيل نجاة قد وفَّقه الله لطريق الفائزين، وسلك به طريق المفلحين، وأن طرق الخير كثيرة، وأبواب البر مشرعة مفتحة، وأنه كما على المسلم أن يحرص على الأعمال الصالحة ولو كانت قليلة فعليه أن يحذر المعاصي ولو كانت حقيرة. وبيّن الشيخ الحذيفي أن الأعمال الفاضلة ثلاثة أنواع؛ الأول: الأعمال الفاضلة التي يعود نفعها إلي المكلف نفسه ولا تتعدّى لغيره إلا تبعاً؛ كالصلاة والذكر والصيام، وقد جاء في هذا النوع ترغيب كثير؛ فعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة، ومن أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "ذكر الله" . ومضى إمام وخطيب المسجد النبوي موضحاً النوع الثاني من فضائل الأعمال الصالحة وهو ما يتعدى نفعه إلى الخلق وإحسان إلى النفس وإحسان إلى الغير، وفيها يتسابق المتنافسون، وفاز أهلها بخير الدنيا والآخرة؛ فعن عبدالله بن عمر أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: "أربعون خصلة أعلاهن منيحة العنز، ما من عامل يعمل بخصلة منها رجاء ثوابها وتصديق موعودها، إلا أدخله الله بها الجنة", مشيراً فضيلته إلى أن الدعاء أعظم عبادة يتقرّب بها العبد إلى الله تبارك وتعالى، فيرفع إلي ربه حوائجه في الدنيا والآخرة، وأن الدعاء شأنه عظيم وأمره كبير، ولا سيما في أوقات النوازل وأوقات الكربات، وفي هذا العصر نزل بالمسلمين شدائد وكربات، واقتتلوا واستحل بعضهم من بعض ما حرَّم الله عز وجل، فالمسلم يدعو لنفسه، ويدعو للمسلمين ويدعو بأن ينصر الله الإسلام والمسلمين، وأن يرفع الله البأس والاختلاف عن المسلمين, في الحديث "الدعاء مخ العبادة" . وأضاف إمام وخطيب المسجد النبوي أن النوع الثالث من أبواب الخير العظيمة كفّ الشر والأذى والضرر عن الناس، فيحفظ المسلم لسانه ويده وجوارحه, فيحفظ المسلم بهذا حسناته، ويريح الناس من شره قال الله تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره}.