قال الباحث الشرعي محمد بن علي الجوني إن الكثيرين من المحتسبين والغيورين يخطئون على الشريعة في فهم هذا الأصل السُنّي الذي اجتمعت عليه كتب العقائد السّلفية المستنبطة من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فقول العلماء: "يجب السمع والطاعة لولاة الأمر في غير معصية الله"، ليس دعوةً مفتوحة لكثرة المنازعة لولاة الأمر في كل مسألة يتبادر إلى الذهن وقوعها على وجه مخالف للشريعة، وليس المراد من تقرير هذا الأصل دخول المتشرعة والفقهاء في خصومات ومعارك لا تنتهي، في صحة التكييف الشرعي لهذا الحكم أو ذاك. وأضاف ، مثل هذا الفهم المغلوط لهذه الجملة، سوف يُحدث إرباكًا لمجتمعات المسلمين، وخلخلة لصفوفها، ونزاعًا لا تنقضي حججه، ولا تنتهي عجائبه. يجب ابتداء إحسانُ الظن بولاة أمر المسلمين أمراء وعلماء؛ وإعذارهم والرجوع إليهم؛ والتديّن لله بعدم منازعتهم، فيما انفصلوا إليه من حقّ جليّ أو استبان لهم من مصلحةٍ راجحة. فإن كانت المسألة من موارد النزاع، وقد ظهر لنا بناء على فهمنا وتقديرنا واجتهادنا أنهم قد أخطؤوا في تقريرها، فرجوعنا إليهم في حكمها خيرٌ من إخلادنا للاختلاف والمنابذة المورثة للعداوة والبغضاء. فإنّ أمر المسلمين لا ينتظم، وأمور دينهم ودنياهم لا تستقيم، إلا بالألفة والاجتماع والبُعد عن أسباب التفرق، خصوصًا في القضايا الكبرى والنّوازل العامة. فالرجوع في أمر الدين إلى العلماء الربانيين والفقهاء المعتبرين وإلى من بيده ولاية أمر الناس وتدبير شؤونهم، كان هو العاصم على مر التاريخ من التنازع والتفرق الذي كان يتربص بمجتمعات المسلمين، طمعًا في إفساد دينهم وتخريب ديارهم.
وتابع "الجوني"، ففي حروب الردّة كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا يرى قتال تلك القبائل والطوائف الممتنعة عن أداء الزكاة لخليفة المسلمين أبي بكر رضي الله عنه، واستند في رؤيته تلك إلى أنهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله؛ فإذا فعلوا ذلك حرُمت دماؤهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله. لكنّ أبا بكر رضي الله عنه وهو ولي أمر المسلمين رأى وجوب المبادرة إلى قتالهم والشّهادة عليهم بالردّة،
وتابع ، "بيّن لعمر رضي الله عنه أن أداء الزكاة من حقّ لا إله إلا الله الذي يجب قتال الطائفة الممتنعة عن القيام به؛ فقال عمر رضي الله عنه: فما هو إلا أن رأيت أنّ الله قد شرح صدر أبي بكر لذلك، حتى علمت أنّه الحق !تأمل معي رعاك الله في هذا المقام الذي ينبغي أن يُكتب بمداد من نور؛ لو كان هذا الموقف جرى اليوم لغيره رضي الله عنه من قاصري النظر وقليلي الفهم؛ لتعصّب لقوله وأبى الرجوع لرشده، وامتنع عن السمع والطاعة لمن ولاه الله أمره. وهو يظن بذلك أنه قد بلغ الغاية في التمسك بالحق؛ وأنّه لن يتراجع أو يتزحزح عنه، ولو اجتمع عليه من بأقطارها !"
وبين "الجوني" أنه لربما أوقع فتنة بين المسلمين، وقد ينحاز بطائفة عظيمة من الجيش ممن يوافقونه على رأيه؛ ويتعصّبون لقوله، وقد يهيّج الناس على حاكمهم، ويدعوهم إلى خلعه ومنابذته، تقربًا إلى الله وحقنًا لدماء وأعراض تلك الطوائف الممتنعة عن شعائر الإسلام، ممن يريد ولي الأمر التوجه لقتالهم.
لكنّ عمر رضي الله عنه وهو من أخذ الدين وتعلّمه على يد النبي صلى الله عليه وسلم؛ امتثل أمر الله فرجع إلى من أرشده الله تعالى إلى الرجوع إليه، ومن أوجب الله عليه السمع والطاعة له، فإنّه لوفرة عقله وسعة علمه، أزال ذلك الخلاف وقضى عليه في مهده، وانشرح صدره لرأي أبي بكر رضي الله عنه، ولزم جماعة المسلمين وإمامهم في أشدّ المضايق والتّحولات الكبرى التي كادت تميد بكيان هذه الأمة، وتتسبب في فنائها والتعجيل بهلاكها.
وأكد أن هذا درسٌ عظيم وموقف جليل ينبغي على الدعاة إلى الله والمحتسبين على المنكرات، والغيورين على حوزة الشريعة أن يطيلوا النظر فيه وأن يعتنوا بتدبر آثاره. وكذلك ما جرى من عمر رضي الله عنه من اجتهادات في زمن خلافته، قد يرى فيها قليل الفهم وقاصر النّظر معارضةً صريحة للنصوص الشرعية، كإيقافه لسهم المؤلفة قلوبهم في وقت ظهور الإسلام وتمكينه وعزّة أهله، وعدم الحاجة إلى استمالتهم وتأليف قلوبهم، وعدم إقامته لحدّ السرقة على من سرق من حرز على وجه الخفية في عام الرمادة ووقت الاضطرار والمخمصة، لكنّ أولئك الصحابة رضي الله عنهم الذين كانوا يفهمون هذا الدين حقّ الفهم ويفقهون مواقع الخطاب، امتثلوا أمر الله في تلك المقامات، ووكلوا أمر تدبير الناس ومصالحهم إلى العلماء بها والمسؤولين أمام الله عنها. ولم يأتِ في السير والتراجم والآثار أّن أحدًا من الصحابة رضي الله عنهم وحاشاهم؛ جاء ليسرد على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه آيات في وجوب الخضوع للشريعة؛ ولزوم التحاكم إلى الله، أو يذكّره بحكم تبديل الشرع في قضايا معلومة ومنصوصة ومحسومة في الشريعة كسهم المؤلفة قلوبهم وحدّ السرقة. ومن المتقرر عند الفقهاء أن حكم الحاكم يرفع الخلاف، وهذا الذي اختاره إمام المسلمين وعالمهم هو الحكم الذي أوجبت الشريعة عليهم الرجوع له، وهو الحقّ الذي يجب عليهم الإذعان له، وإن كان بعضهم يظنّه وفق اجتهاده خطأ ومخالفًا للشريعة في الأمر نفسه.
وقال : ليعلم أنّه حتى وإن كان خطأ في ظنهم وما وصل إليه اجتهادهم وتقديرهم في تلك النّازلة التي تتطلب حكم الله؛ فالإمام مأجور على اجتهاده وبذله الوسع في إصابة الحقّ، ويجب أن يسمع له الناس ويطاع، وإلا صار النّاس فوضى لا سُراة لهم ، ولخفاء هذا الأصل وعدم اعتباره وتأكيده في أذهان كثير من المتفقّهة المعاصرين، أصيبت الأمة بداء التفرق والاختلاف والتشظي الذي أصابها في مقتل، وقطّعها إلى أحزاب وشيع متناحرة.