شدد إمام وخطيب المسجد الحرام بمكة المكرمة الشيخ الدكتور صالح بن عبدالله بن حميد، على أن "في الإسلام أصولاً ثوابت غير قابلة للتعديل والتبديل؛ فالإسلام بذاته ليس مجالاً للإصلاح؛ وإنما يكون به الصلاح والإصلاح"؛ داعياً كل مُصلح إلى لزوم ما يعرف، والسير على ما يقدر؛ فالمشاركة في كل قضية ليست دليلاً على الوعي، ولا علامة على الاهتمام بأمر المسلمين؛ بل تكون دليلاً على قلة الإدراك. وقال الشيخ "ابن حميد" في خطبة الجمعة التي ألقاها اليوم بالمسجد الحرام بمكة المكرمة: "إن وظيفة الإنسان في هذه الحياة هي العبودية لله -عز وجل- بتوحيده وذكره وشكره وحسن عبادته، ثم عمارة الأرض بما تقتضيه هذه العبودية؛ مشيراً إلى أن العبودية هي الغاية الكبرى، أما الأعمال والمعارف والحِرَف والصناعات؛ فهي وسائل إليها وتابعة لها".
وأكد أن جوهر الاستخلاف هو التمكين في الأرض؛ لافتاً إلى أن البشر مَفْطورون على التدين والتعبد لله، وليس طريقاً لإصلاح البشرية وإعمار الأرض إلا طريق الدين وسلوك سبيل المؤمنين.
وأشار إلى أن من بعض ضعاف الإيمان من يرى الغيرة تشدداً، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إقصاء أو تدخلاً، والإقدام على المنكرات حرية شخصية، ومحذراً من فلسفات أو أطروحات لا تؤسس لطريق مستقيم، ومن تمجيد العلوم والمعارف المجردة من القيم، مبيناً أن الغلو ينبوع الانحراف.
وخاطب فضيلته المصلحين والمتحدثين عن التجديد بأن الصالح المُصلح لا ينحرف عن الشرع انتقاماً من أخطاء بعض المنتسبين إليه، ولا يلزم من الخلاف في الرأي الخلاف في الولاء؛ داعياً إياهم إلى أن ترتيب أولوياتهم وتقديم الأهم فالمهم، وليحذروا أن تشغلهم شهوة الكلام والجدل على جدية العطاء والعمل، وحسن النية لا يغني عن حسن العمل.
وزاد: "كم هو ضروري أن يعلم المصلحون والمجددون أن في الإسلام أصولاً ثوابت غير قابلة للتعديل والتبديل من العقائد ومحكمات الدين، وما علم من الدين بالضرورة؛ فالإسلام بذاته ليس مجالاً للإصلاح؛ وإنما يكون به الصلاح والإصلاح؛ فالإسلام هو المصلح".
واستطرد فضيلته يقول: "يا من ترغب بالإصلاح، ليس هناك من شيء أنفذ للقلوب أسرع من صحة المعتقد وحسن العبادة وصفاء القلب، ثم حسن المعاملة وغض الطرف عن الزلات؛ فاستقم كما أمرت، لا كما رغبت.. وليحذر أن يغلب عليه تمجيد نفسه وإظهار صورته، وليكن خادماً لدين الله؛ فسلامة الدين قبل سلامة النفس، وسلامة المنهج قبل منهج السلامة، وليحذر أن يكون مطية لما يزرع الفرقة في الأمة والبغضاء بين الأشقاء، وليكن معتدلاً منصفاً في أقواله وأفعاله، وحسن الظن بإخوانه".
ونبه الشيخ "ابن حميد" إلى أن المصلح ليس مسؤولاً عن النتائج ولا عن الانتصارات؛ بل عليه أن يطمئن إلى أنه على الجادة سائر على هدى ربه، منفذ لأوامره مجتنب نواهيه.
وتابع فضيلة إمام وخطيب المسجد الحرام بمكة المكرمة قائلاً: "أيها المصلح، ادع إلى الله على بصيرة، وَجِدّ واجتهد، وسدد وقارب، والعصمة ليست للبشر، وأقم الدين في نفسك وأعْلِ القيم في مسلكك، غيّر ما بنفسك يتغير ما حولك، {إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يُغيّروا ما بأنفسهم}، والقلب إذا صلح صلح الجسد كله، وإذا فسد فسد الجسد كله، وابتعد عن التأليب وصراع المصالح والجماعات، وإياك أن تظن أنك مسؤول عن توزيع أقدار الله، وأن تحسن الظن بنفسك، وبمن تهوى، وتسيء الظن بمن لم تحب، وبمن لم تهوى".
وأوضح الدكتور صالح بن حميد أنه "ليس مطلوباً من المسلم -لا سيما طالب العلم والمصلح وصاحب الرأي- أن يخوض في كل مسألة ويَلِجَ في كل مستجد، ومن فعل ذلك خلّط وخلّط؛ فليعرف العاقل قدره وليقدر موهبته وملكته، وليقتصر على فنه ومجاله وخبرته، لا تُخدع أو تنخدع بأن عليك مواكبة المتغيرات ومتابعة المستجدات، عليك لزوم ما تعرف والسير على ما تقدر؛ فمن أراد كل شيء خسر كل شيء؛ فالمشاركة في كل قضية ليست دليلاً على الوعي ولا علامة على الاهتمام بأمر المسلمين؛ بل تكون دليلاً على قلة الإدراك".
وأكد الدكتور "ابن حميد": "العلوم والتقنيات وسوق العمل ليست البديل ألبتة عن العقيدة والأخلاق"، وتساءل: "ماذا تفيد الصناعات والتجارة إذا لم تبنِ إنساناً مستقيماً مؤمناً حي الضمير مواطناً صالحاً؟".
ولاحظ إمام وخطيب المسجد الحرام بمكة المكرمة الشيخ الدكتور صالح بن عبدالله، في ختام خطبته، أنه قد يكون من ابتلاءات هذا العصر أن مجتمعات هذا اليوم مجتمعات مفتوحة بأدوات تواصل اجتماعي تتاح معها المشاركة مع الجميع؛ مشدداً على أنه لا ينبغي أن تكون هذه الأدوات وسائل شحن وتشنج بدعوى الحرية وحق النقد والرغبة في الإصلاح في تأليب للرأي وتنكر للإيجابيات ودفن للحسنات؛ بل عدم موازنة بين الحسنات والسيئات".
وأشار إلى أن "الموضوعات المختلفة من دينية وسياسية واجتماعية واقتصادية وتربوية وغيرها أصبحت منثورة بين أيدي الناس في المجالس والمنتديات والتغريدات"، وحذّر من "أن الحرص على الدخول في كل هذا، يهدم ولا يبني، ويضر ولا ينفع، وهو خلاف المنهج السليم، وليتوجه كل مُصلح لما يَسّر الله له في علمه وفهمه وإدراكه".