«ما زال سوط النقد يطوح في الفراغ أما خيول الشعر فجامحة».. ما إن أطلق ابن عباس عنان مقولته «الشعر ديوان العرب» حتى تخطفها اللغويون والنقاد على مدى أربعة عشر قرناً، يطيرونها حيناً لتتخطف خيال الشعر في أوديته العصية أو سمائه غير المرئية، وحيناً ينصبونها كميناً لطيور الشعر كي يقصوا أجنحته فلم يعد يحلق بعيداً عنهم ليرضخوه لما ليس بشعر. ابن عباس، ابن سلام الجمحي، ابن قتيبة وإن أضفوا على الشعر صفة ديوان العرب فهم صادقون وقتذاك، إذ كان الشعر فن العرب الوحيد وبه تخلد حياتهم، وحيث إن المعاني في القرآن الكريم لا يفض مغاليق لغتها المعجزة إلا لغة الشعر العربي الأصيل قبل أن يطغى عليه اللحن، وحيث كان العرب أميين ولا يجيدون من الفنون جميعها إلا أباها، يمتطي موسيقى أصواتهم في بحور صحرائهم الرحبة؛ فيصور حياتهم العاطفية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وحين يحل موعد تجمعهم السنوي الكبير في موئل العرب «سوق عكاظ» يجرون أنهار الشعر في أودية حياتهم الأدبية فتخضر الصحراء كفاتنةٍ بكر، وتتطاول الجبال لتعانق السماء، أما السهول والوديان فتتسابق فيها ضباء الشعر آمنة مطمئنة. مقولة ابن عباس اجترها الكثير من النقاد القدماء حين قالوا: «كان الشعر في الجاهلية ديوان علمهم، ومنتهى حكمهم، به يأخذون، وإليه يصيرون» ابن سلام الجمحي - طبقات فحول الشعراء. «الشعر ديوان العرب، وخزانة حكمتها، ومستنبط آدابها، ومستودع علومها» العسكري - كتاب الصناعتين. «الشعر معدن علم العرب، وسفر حكمتها، وديوان أخبارها، ومستودع أيامها» ابن قتيبة - عيون الأخبار. «الشعر ديوان العرب، به حفظت الأنساب، وعرفت المآثر، وتعلمت اللغة» ابن فارس الصاحبي. مقولات استهلكت في القرون الأولى لتدوين الشعر الجاهلي، وهي وإن حملت جزءاً من الصحة يرجحها مقتضى الحال، إلا أنها انزاحت عن الحقيقة فيما بعد، وأخذ النقاد يطوحون بآرائهم في الفراغ بينما الشعر يحلق في سماء الخيال والصور الشعرية المبتكرة رغم ما أصابه من وهنٍ على مختلف عصوره. لقد أثار نقاد كثر هذه المقولة، ونصبوا سؤالاً في طريق النقد: هل تصبح الرواية ديوان العرب؟. ولِمَ لا. لقد ظهرت الرواية مبكراً في الأدب العربي وحملت المقولة منذ القدم، فماذا نسمي مرويات أيام العرب، وحكايات كتاب الأغاني، والأمالي، والعقد الفريد، ورسالة الغفران للمعري وغيرها الكثير. إذا كان العرب تنبهوا للرواية كجنس أدبي أصيل في الحقبة الأخيرة عند حنا منه وعبدالرحمن منيف ونجيب محفوظ، فجذورها متشبثة بأرضية قديمة، وهي وإن كانت فناً نثرياً مستقلاً، إلا أنها لا تخلو من خيال الشعر وصوره الفاتنة، بل إن روادها أغلبهم شعراء ولنا في فكتور هوغو أعظم مثال. لنعود إلى جوهر مقولتنا المتجددة «الشعر/ الرواية ديوان العرب» وبعد أن بركت ناقة الرواية في بيت العرب الشعري الكبير «سوق عكاظ»، وفازت إحدى الروايات المحلية بمسابقتها السنوية في أول مشاركة لها هذا العام، هل يدع النقاد الشعر لفضاءاته الرحبة ويقودون زمام الرواية لتسرد لهم حكاية العرب التي لا تنتهي؟