يقول فلوبير، في رحلة كتابة روايته الشهيرة مدام بوڤاري، والتي بلغ عدد صفحات مخطوطتها الأصلية الألفي صفحة «أي مجداف ثقيل هو القلم»، يتفق معه أرنست همنغواي الحائز على جائزة نوبل ليقول «إن الكتابة تبدو سهلة غير أنها في الواقع أشقّ الأعمال في العالم». إن تصريحا كهذا، قد يبدو بديهيا لكل من جرّب الكتابة، ومرعباً بالدرجة نفسها لكل من قرأ قصص هيمنغواي التي تبدو سهلة وبسيطة، ولكن هؤلاء الذين لم يخوضوا التجربة، لا يدركون حجم معاناة الكاتب. إن الكتابة فنّ كغيرها من الفنون، حتى أن ميلان كونديرا والذي درس الفن الموسيقي، يشبّه كتابة الروايات بتأليف المقطوعات الموسيقية، ومن يقرأ رواية «اسم الوردة» لأمبرتو إيكو، ويتأمل في الرسم الهندسي للدير الذي تقع فيه أحداث روايته التاريخية، ويبدأ بالتوغّل في عالمها المبني بعناية في أدق التفاصيل، سيدرك أنها فنّ شبيه بفنّ العمارة، وأن كاتب النصّ قد تحول إلى معماري بارع، أنتج عملاً ضخماً ومتقناً شديد الرسوخ والمتانة، عملا شبيها بكاتدرائيات القرون الوسطى. ومن هنا يبرز التحدي الحقيقي للكاتب، فالرواية كعمل فنّي وممارسة إبداعية، تحتاج إلى تمكّن كاتبها من جميع أدواته، بل واستخدامها بطريقة احترافية تتوخى الإبداع، فالكتابة كما يقول ماركيز كالنجارة، وهي تحتاج على غرار امبرتو ايكو إلى بنّاء ماهر ذي نفس طويل، وما يجعل الأمر صعباً للغاية هو أن كتابتها لا تتم في جلسة واحدة، وتحت ظرف واحد، ما يجعلها عملاً غير قابل للتكيّف وفق أهواء الكاتب وأمزجته، بل عملاً يكيّف كاتبه ويجعله أسير قوانينه الخاصة، ما قد يستمر لسنوات طويلة.. لقد استغرقت مارغريت مشيل عشر سنوات لكتابة روايتها الشهيرة «ذهب مع الريح»، كما استغرقت روايات امبرتو ايكو أربع لخمس سنوات لكتابتها. لقد سمعنا عن فنانين وقعوا فريسة الشك والألم، فنانين عظماء ماتوا وانتحروا مكتئبين خوفاً من الفشل، ونضوب الإبداع، والكاتب بصفته فنّانا يمشي وحيداً في طريق الكتابة قد يتوقف في منتصف الطريق، ويشعر بالسخط وعدم الرضا على أعماله، لقد أحرق غوغول وجيمس جويز وكافكا بعض أعمالهم، وكتب تشيخوف ذات مرة لزوجته وقد أستبدّ به اليأس أنه يشعر بانتهاء صلاحيته ككاتب. إن هاجس الشكّ الذي يهاجم كل المبدعين والفنانين يجعلهم فريسة لمشاعر الألم والإحباط، كما أن في طريق الكتابة الطويل: ما يتطلّب الكثير من الجهد و العناء، والعذابات الكثيرة.