جميع «الدول» المكونة للمملكة المتحدة، بما فيها العاصمة لندن، عدا إنجلترا، صوتت للبقاء في الاتحاد الأوروبي؛ أسكتلندا وويلز وآيرلندا الشمالية، وكذا العاصمة لندن، صوتوا لصالح البقاء في الاتحاد الأوروبي، لتبقى إنجلترا وحدها هي التي صوتت لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي، ولربما تبقى هي وحدها، لو انفض أو تفكك الاتحاد البريطاني (المملكة المتحدةلبريطانيا العظمى وأيرلندا)، الذي أنشئ بموجب قانون الاتحاد لعام 1800. ما يجعل هذا الاحتمال غير بعيد، أن صيغة الاتحاد الفيدرالي البريطاني، تعاني من درجة كبيرة من «الميوعة» والضعف، تجعلها من أضعف الاتحادات الفيدرالية في العالم، مقارنة بالاتحاد الفيدرالي الأمريكي، على سبيل المثال، حيث يعتبر هذا الاتحاد الأخير من أقوى الاتحادات الفيدرالية، على الإطلاق، يتمتع بصفة شبه أبدية، تجعل من الصعوبة بمكان (دستوريا) انفصال ولاية عن الحكومة المركزية في واشنطن، بل وحتى إجراء أي تعديلات في حدود ولاياته، ولا حتى اندماج بعضها ببعض. حتى أن تاريخ الاتحاد الفيدرالي الأمريكي أرسى ممارسات عنيفة للحفاظ على كيان الاتحاد، وسطوة الحكومة الأمريكية في واشنطن، وبالذات مؤسسة الرئاسة، للحفاظ على وحدة الاتحاد. الحرب الأهلية الأمريكية (1861 1865) ترسي قاعدة عنيفة لضمان بقاء الاتحاد، تردع أي محاولة جادة من قبل أي عضو في الاتحاد الإقدام على الانفصال، لذا قيل عن الاتحاد الفيدرالي الأمريكي إنه: اتحاد للأبد!. بالمقارنة، يعكس الاتحاد البريطاني هشاشة بنيوية، وإن قاومت محاولات تفككه، لأكثر من واحد وعشرين عقدا ونصف عقد من الزمان، فإمكانيات انفصال أعضائه (دوله)، لا تتجاوز صندوق الاقتراع في استفتاء حول البقاء في الاتحاد من عدمه، من قبل سكان (الدولة) العضو المعنية، كما حدث في استفتاء أسكتلندا (18 سبتمبر 2014) حول بقاء أو خروج أسكتلندا من المملكة المتحدة، عندما اختار أكثر من 55 % من سكان أسكتلندا البالغ عددهم 5 ملايين نسمة البقاء ضمن التاج البريطاني. اليوم وبعد أن اختارت إنجلترا الخروج من الاتحاد الأوروبي، بدأت صيحات التذمر من الاتحاد البريطاني، التي تهيمن عليه لندن، تتعالى بين حكومات (الدول) المكونة للمملكة المتحدة، خاصة في أسكتلندا وأيرلندا الشمالية. لقد هددت رئيسة وزراء أسكتلندا (نيكولا سترغن)، عشية ظهور نتيجة الاستفتاء، بطريق غير مباشر، بانفصال بلادها عن المملكة المتحدة، إذا ما أُجبرت بلادها على الخروج من الاتحاد الأوروبي. كما هدد الرجل الثاني في حزب (الشين فين) الحاكم في أيرلندا الشمالية، بإجراء استفتاء لخروج بلاده من المملكة المتحدة والانضمام إلى جمهورية أيرلندا. لكن الأمور، في حقيقة الأمر، ليست بهذه البساطة. الاتحاد الذي استمر ل216 سنة، وتشكل خلال ثلاثة قرون، ليس من السهل أن يتقوض، بين عشية وضحاها، رغم سهولة آلية حدوث ذلك. رئيسة وزراء أيرلندا نفسها، رغم تحمسها للبقاء في الاتحاد الأوروبي، نراها تُفضِّل أن يكون ذلك ضمن وحدة بلادها ضمن المملكة المتحدة، وهذا أمر يحول دونه قانون الاتحاد البريطاني لعام 1800، وكذا شروط العضوية في الاتحاد الأوروبي. قانون الاتحاد البريطاني، وإن كان يعطي حرية كبيرة ل(الدول) المكونة للمملكة المتحدة، بما فيه إرادة البقاء أو الخروج من الاتحاد، عدا ما له علاقة بالسياسة الخارجية، حيث وضعها ذلك القانون ضمن حقوق السيادة لحكومة لندن المركزية. كما أن العضوية في الاتحاد الأوروبي، لا تُعطى إلا للدول المستقلة، وضمن شروط أكثر تعقيدا تُعرف بشروط كوبنهاجن (1993)، تتضمن توفر متطلبات اقتصادية وتشريعية، في الأعضاء الجدد، تتوافق مع تشريعات الاتحاد الأوروبي وسياساته الاقتصادية، قبل النظر في طلب العضوية في الاتحاد الأوروبي. إلا أنه من ناحية أخرى، هناك أيضا: مشكلة جغرافية، سكانية وتضاريسية واقتصادية، في كيان المملكة المتحدة تساعد في عدم استقرار وتماسك بريطانيا العظمى. إنجلترا تشكل أكثر بقليل من مساحة البلاد، بينما يشكل الإنجليز أكثر من أربعة أخماس السكان.. كما يشكل اقتصاد إنجلترا الجزء الأكبر من اقتصاد المملكة المتحدة. رئيسة وزراء أسكتلندا، عندما قالت: إن خروج أسكتلندا من الاتحاد الأوروبي، بسبب خروج بريطانيا بأنه إجراء غير ديمقراطي، كانت في حقيقة الأمر تشير إلى تصويت شعب بلادها لصالح البقاء، دونما اعتبار لكون أسكتلندا جزءاً من بريطانيا! من ناحية أخرى تبدو صيغة المملكة المتحدة، بالنسبة لإنجلترا غير منصفة. كيف لما يقرب من 85 % من سكان المملكة المتحدة ول(الدولة) التي تتمتع بالمساحة الأكبر من الاتحاد ويشكل اقتصادها الجزء الطاغي من اقتصاد البلاد، أن تخضع لابتزاز شركائها في الاتحاد، الأقل سكاناً.. والأصغر مساحةً.. والأفقر من حيث الموارد، الذين لطالما هددوا وحدة المملكة المتحدة، لخدمة مصالحهم الضيقة. وإن كانت هيمنة إنجلترا على كيان المملكة المتحدة، هي في حقيقة الأمر هيمنة حقيقية، بل قد تكون مصيرية، إلا أن واقع هشاشة وميوعة الاتحاد، قد تنهي صيغة اتحاد استمرت لأكثر من قرنين من الزمان، بسبب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. بل إن الاتحاد الأوروبي، نفسه، يدفع باتجاه تفكك المملكة المتحدة، سواء بالضغط في اتجاه خروج بالغ التكلفة ومذل لبريطانيا من الاتحاد الأوروبي.. أو بسبب تحريض (الدول) المكونة للمملكة المتحدة، بالاستقلال والانفصال عن إنجلترا، إن هي أرادت العضوية في الاتحاد الأوروبي. مصير بقاء بريطانيا العظمى موحدة، اختبار حقيقي لمدى صمود صيغة الدولة القومية الحديثة، أمام تحديات العولمة الطاغية.