هدوء يعم المكان.. ألسنة تلهج بالدعاء بأصوات أقرب إلى الهمس، فقير يتربع إلى جانب غني، وعامل بجوار رجل أعمال، جميعهم يجلسون على مائدة الإفطار في ساحات الحرم المكي الشريف، يترقبون لحظات تحليل صومهم على صوت المؤذن الشجي، ويرددون بصوت واحد «ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله». منظر مهيب يجسد الأخوة الإسلامية الحقة، إذ لا فرق بين مثقف وأمي، كبير وصغير، وهم يتناولون الإفطار وسط منظومة متكاملة من الخدمات، والموائد المبسوطة على مساحة 100 ألف متر مربع تحتوي نحو 600 ألف صائم يوميا. إدارة خاصة شؤون الحرمين لم تقف مكتوفة الأيدي تراقب المشهد، بل أولت الساحات اهتماما كبيرا، وأسندت تنظيمها إلى إدارة خاصة، تراقبها وتتابعها بشكل دقيق، وتهيئ الفرش وماء زمزم فيها، وتتعهد كذلك بنظافتها على مدار الساعة لمنع أي ظواهر سلبية تزعج المصلين، إذ وزعت الإدارة على شكل مربعات تحتوي الكثير من الجهات الخيرية التي تشارك في إفطار الصائمين، بعد إصدار تصاريح من قبل الرئاسة لها والأفراد الذين يرغبون في تفطير الصائمين، إذ توزع قرابة 80 ألف وجبة إفطار يوميا فيها وتزيد في الأيام الأخيرة من شهر رمضان المبارك لتصل إلى قرابة مليون وجبة، تشرف عليها لجنة السقاية والرفادة، وتقدم بشكل منظم وفق اشتراطات وضعتها اللجنة. حزام أمني.. وعقوبات حفاظا على صحة المعتمرين والزوار، حددت لجنة السقاية والرفادة ضوابط لنوعية الأطعمة المقدمة في ساحات المسجد الحرام، منها: أن لا تقل عدد الأصناف في الوجبة عن أربعة ولا تتجاوز الستة، وأن لا تحتوي على طعام مطبوخ وتتكون من العصائر الطبيعية والماء والكرسان والتمر منزوع النوى. وترفع اللجنة تقارير يومية عن كل سفرة إفطار من خلال مراقبين مشرفين، كما حددت جزاءات وعقوبات لكل من يخالف الاشتراطات، تبدأ بالإنذار وتصل إلى حد منع الجهة من التوزيع إذا كثرت عليها الملاحظات. ولضمان منع دخول الأطعمة المطبوخة إلى ساحات الحرم، تنشر إدارة الساحات بعد صلاة العصر مباشرة حزاما أمنيا لمراقبة الوجبات وجميع الظواهر السلبية، ويستمر العمل حتى وقت آذان المغرب، كما تفرد السفر بشكل منظم منذ الخامسة عصرا، محتوية على أغذية ذات قيمة عالية وتحافظ في نفس الوقت على النظافة، مع مراقبة لها من قبل الشباب العاملين في تهيئة السفر للصائمين لمنع الممارسات السلوكية السيئة مثل التسول وغيره من الممارسات الخاطئة. مشهد تكافلي هذه المشاهد تعكس المشهد التكافلي بين المسلمين الذين جاءوا للحرم من كل بقاع الدنيا، إذ يؤثر كل منهم على نفسه ويمنح أخاه الأسودين «التمر وماء زمزم» لينال أجر «تفطير صائم»، فيما يتسابق موظفو السقاية والرفادة في تقديم الوجبات للصائمين، وما إن ينتهي الإفطار إلا وتجدهم قد رفعوا الموائد في ظرف خمس دقائق وبتنظيم مثالي، يعكس الهمة العالية والنشاط من قبلهم في خدمة المعتمرين والزوار دون الإخلال بالنظام الموضوع من قبل الإدارة، رغم أن التعامل مع مثل هذه الحشود يحتاج إلى جهد كبير، وثقافة عالية لأن الموجودين في ساحات الحرم المكي الشريف ينتمون إلى ثقافات مختلفة، فمنهم المتعلم وغير المتعلم، والمسن والمريض، لذلك يسعى موظفو الرفادة لكسب رضاهم جميعا دون أن يؤثر ذلك على عملهم، وهو ما يقومون به فعلا على مدى أعوام أكسبتهم الخبرة الكافية للتعامل مع أكبر تجمع بشري في العالم.