يتحاشى طارق البشري في بحثه الموسوم ب(الملامح العامة للفكر السياسي الإسلامي في التاريخ المعاصر) استخدام كلمة (أطراف) وهي ما تقابل كلمة (قلب) لكنه ضمناً، يومئ إليها في تحديد مناطق قيام حركات الإصلاح الديني، أو ما أسماها بحركات التجديد الفقهي والفكري. القلب والأطراف في بحثه لهما معنى سياسي متصل بالسلطة والدولة وليس لهما معنى ثقافي وتاريخي، كالذي أشار الدكتور خالد فهمي إليه في مداخلته، فالقلب حدد طارق البشري حيزه بمدن ثلاث هي: استامبول ودمشقوالقاهرة، والأطراف حددها بمناطق هي: الهندوالعراق ونجد واليمن والحجاز والسودان والمغرب. المدن الثلاث بمناطقها، تركيا والشام، ومصر، هي عنده موضع ممارسة السياسة والإدارة والنفوذ والهيمنة في الدولة العثمانية، أو هي بتعبير آخر موضع مركز السلطة. والمناطق الأخرى هي عنده أطراف، لأنها -كما يتصور- بعيدة عن مركز السلطة كالحجاز والعراق، ولأنها بمنأى عن نفوذ الدولة العثمانية، كنجد واليمن (محمد بن علي الشوكاني ولد وعاش وتوفي في فترة زمنية لم تكن اليمن فيها تابعة للعثمانيين!)، ولأنها بعيدة عن مركز السلطة في القاهرة كما في حال الدعوة المهدية التي كان السودان إبان ظهورها تحت الحكم المصري-الإنجليزي، ولأنها بمنأى عن نفوذ السلطة العثمانية والسلطة المصرية كما هو حال الدعوة السنوسية، ولأنها نائية جغرافياً عن قلب الدولة العثمانية وحتى عن تخومها، كما هو حال الهند. لم يستعمل البشرى إزاء الدعوات والحركات الدينية التي عرض لها في بحثه سواء على نحو أساسي أو ثانوي، عبارات، كالتفتح والانغلاق، التسامح والتشدد، الاعتدال والغلو إلا حين حديثه عن فكر سيد قطب، فقد وصفه بالمغالاة، لكن في سياق تبريري. ولم يرتب نتيجة سلبية على ظهور حركات الإصلاح الديني في مناطق الأطراف، ولا نتيجة إيجابية على ظهور حركة جمال الدين الأفغاني، محمد عبده، رشيد رضا، لمجرد أن ظهورها على عكس الأولى كان في منطقة القلب. اللبنة الأولى والأساسية في بحثه هي وضع ما أسماه بحركة التجديد الفقهي والفكري التي توالى ظهورها بدءا من منتصف القرن الثامن عشر حتى منتصف القرن التاسع عشر تقريباً، مع ما أسماه بحركة الإصلاح المؤسسي (السلطان سليم الثالث، السلطان محمود الثاني، محمد علي باشا)، اللتين يبتدئ بهما التاريخ الإسلامي المعاصر على نحو مواز، رغم أنهما كانتا متناقضتين. ويعتقد أنه كان من المفترض أن تمتد الدعوات التجديدية الإصلاحية إلى منطقة القلب من الأمة الإسلامية (تركيا، الشام، مصر) وتنمو ويزداد نفوذها حتى في مجال نفوذ المؤسسات المركزية، وذلك لعظم الاحتياج للإصلاح الفكري وللتجديد الفقهي في ذلك الوقت. ويقيم افتراضه بإمكانية حصول هذا الأمر، على توفر شواهد تاريخية تشير إلى أن هذه الدعوات كانت مما يحسن قبوله لدى عامة المفكرين والثقفين في مصر والشام، لو لم تواجه بمثل ما ووجهت به من السلطة. هاتان الحركتان اللتان ظهرت أولاهما في منطقة الأطراف وثانيتهما في منطقة القلب، يرى أنهما مكملتان لبعضهما البعض، فلو تعاضدتا، لكان ثمة حركة تجديد شامل للجماعة والمؤسسات المختلفة، ولظهر الجديد انبثاقاً من القديم، ولما حصل الازدواج بين المؤسسات القديمة والحديثة الذي أقام صدعاً في الجماعة أوفي البيئة الاجتماعية أو في الهيكل الفكري، ولما تسرب إلينا النفوذ الأوروبي في الكثير من المجالات والأنشطة، ولما كان هناك تغريب، ولما وتوقفت حركة الإصلاح الفقهي والفكري، ولكتب لها ولحركة الإصلاح المؤسسي أن تضعا قدمي الأمة الإسلامية في مسار تاريخي خطي، ليس فيه تعثر وانكسارات وفشل وهزائم، ولا تبعية سياسية واقتصادية وثقافية وفكرية للغرب. بحث البشري هو عمل دعوى وليس بحثاً علمياً، فهو يلغي المشكلات ويذوب الصراعات وينفي التناقضات ويختزل العوامل السلبية في الاستعمار وفي التحديث الغربي (أو التغريب)، ويقوم على التنظير والتأريخ والتفكير عبر الرغبة والتمني. وهذه الرغبة وهذا التمني يصدران في منطلقاتهما ومحدداتهما عن فكر الإخوان المسلمين. إن الترسيمة التي وضعها للاتجاهات الدينية والاتجاه التحديثي في التاريخ المعاصر منذ منتصف القرن الثامن إلى ستينيات القرن الماضي لا تختلف عن السرد الإخواني لهذا التاريخ إلا في هذين الأمرين: هو لا يدين تجربة محمد علي باشا التحديثية في بناء الدولة مثلما يفعل الإخوان المسلمون واتجاهات إسلامية أخرى، بل حاول أن يلتمس لها ولتجربة التحديث العثماني العذر، «فمهام التحديث يقوم على تحقيقها رجال دولة ومديرو أعمال ومنفذو سياسات، وهم بحكم نوع أعمالهم وخبراتهم ذوو حس عملي مباشرة ولا ينشغلون كثيراً بالجوانب النظرية والفكرية. ثم إن الضرورة تستدعي منهم سرعة سريعة في التحرك والتنفيذ، لمواجهة المخاطر الخارجية أولا، وللمناورة والالتفاف على القوى التقليدية في الجيش وفي مراكز الدولة ثانياً». ومن التناقضات في فكر الإخوان المسلمون والإسلاميين عامة، أنهم لا يدينون تجربة التحديث العثماني، رغم أن محتواها إصلاح علماني، بل يصمتون عنها، وإن تعرضوا لها اختلقوا العذر لها. كذلك ينظر البشري إلى تجربة جمال عبدالناصر بمثل منظوره إلى تجربة محمد علي باشا، بوصفهما من التجارب التي بنت ورسخت كيان الدولة المصرية الحديثة ومفهوم الوطنية فيها. وهذه حقيقة لا خلاف عليها. إن من الصعب عليه أن يتحدث عن هاتين التجربتين كما يتحدث الإخوان المسلمون والإسلاميون، فهو قد بنى اسمه كمؤرخ وقانوني في ظل التيار اليساري والناصري وأهميته بالنسبة إلى الإسلاميين وإلى العلمانيين تأتي من هذين المجالين اللذين هو اسم مرموق فيهما، ومن خلفيته اليسارية أو العلمانية السابقة. ادعاء طارق البشري أن حركة التحديث في الدولة العثمانية وفي دولة محمد علي باشا، وأن حركة الإصلاح الديني كانتا مكملتين لبعضهما البعض، وتمنيه أنهما لو كانتا تعاضدتا رأي قال به -وعلى وجه محدد- المؤرخ محمد شفيق غربال في كتابه (محمد علي الكبير)، الصادر في عام 1944 ضمن سلسلة أعلام الإسلام، وقال به من بعده الصحافي جلال كشك في سلسلة مقالات نشرها في مجلة (الحوادث) اللبنانية عن الدعوة الوهابية في شهر أربعة من عام 1979، فلقد تمنيا لو كان قام تحالف بين محمد علي باشا والدولة السعودية. وقد ناقش الدكتور محمد فتحي عثمان هذا الرأي وفند إمكانية حصوله في كتابه (السلفية في المجتمعات المعاصرة)، وكان يفترض به أن يعرض لاعتراض محمد فتحي عثمان المنهجي ويناقشه لكنه لم يفعل ذلك، لأن بحثه -كما أسلفنا- عمل دعوي وليس بحثاً علمياً. إذا أنعمنا النظر في الإطار التاريخي لموضوع بحثه من حيث الشكل، نلحظ أنه أدخل منطقة لم تكن في أي فترة من فترات تاريخية جزءاً من الدولة العثمانية، وهي الهند، وعد موقعها من هذه الدولة موقعاً طرفياً وليس مركزياً. وأنه أدمج دولة محمد علي باشا في الدولة العثمانية. إدخال الهند ضمن النفوذ العثماني وإدخال حتى المسلمين الموجودين في إمبراطوريات مسيحية وإمبراطورية بوذية، وجعلهم هم والمسلمين، رعايا الدولة العثمانية، ورعايا إمارات إسلامية في الهند وحدة واحدة، منحى لا غبار عليه، ففي القرن الثامن عشر لم تكن النظريات القومية قد تبلورت تماماً في أوروبا، ولم تدخل أوروبا بعد في المرحلة القومية. وكان ما يجمع الأمم والشعوب هو الوحدة في الملة والطائفة. ومنذ أن استحدث السلطان سليم الثالث، لقباً هو لقب (الخليفة) عام 1797، صار له سلطان روحي على المسلمين، وأصبح مخولا برعاية الحقوق الدينية للمسلمين في الإمبراطوريات المسيحية. لا يدين البشري في بحثه التجربة الناصرية التي لا يسميها، إدانة واضحة وقوية، وإنما يكتفي بالإشارة إلى العقدين اللذين حكمت فيهما مصر، وهما عقد الخمسينيات والستينيات، بل يتوجه إليها بما يمكن القول عنه إنه لوم ومؤاخذة ف«رغم كل تحفظات قيادة الدولة في مصر وحذرها مما اسمته (استيراد الأفكار) وحرص دعاتها على الترويج لما أسمي بالنظم المنبثقة عن واقع المجتمع وتاريخه، رغم ذلك فقد غلب الطابع العلماني في صياغة مجمل الأفكار والمؤسسات والنظم ورؤى المستقبل، واكتسب المثال الغربي قدراً كبيراً من السيادة في القيم السياسية وفي العادات وأساليب العيش». اختلاف زاوية النظر عند البشري عن الإخوان المسلمون وعن الإسلاميين عامة، إزاء تجربة محمد علي باشا وتجربة جمال عبدالناصر سببه هو تجربته اليسارية السابقة، فالمثقفون والمؤرخون المصريون من تيارات سياسية وفكرية مختلفة، يجمع أغلبهم على شرعية حكم محمد علي باشا وعلى تثمين تجربته، وقد حافظ البشري على وجهة النظر هذه حينما انتقل إلى صفوف التيار الإسلامي. يتخلل الإطار أو البناء الذي أقامه طارق البشري في بحثه ثغرات عدة، فهو رغم اعتباره عالم الإسلام كتلة واحدة، لم يتعرض بالحديث عن حركات التحديث في هذا العالم في المدى الزمني الذي حدده لنفسه، الممتد من نهايات القرن الثامن عشر إلى ستينيات القرن الماضي، واقتصر حديثه على تجربة السلطان سليم الثالث والسلطان محمود الثاني ووالي مصر محمد علي باشا. ولكي يتسق الإطار أو البناء لجأ إلى الاعتساف في تطبيق فكرته، فأخرج العراق من دائرة الهيمنة المركزية للدولة العثمانية، وجعلها من الأطراف، لأنه ظهر فيها شهاب الدين الألوسي، وتغافل عن ذكر تجربة مدحت باشا من بعده. كما أغفل ذكر تجربة خير الدين التونسي في تونس. وأخرج الحجاز من دائرة الهيمنة المركزية للدولة العثمانية للسبب نفسه الذي أخرج العراق منها. فلقد ظهر في المدينة -كما قال- محمد بن نوح الغلاتي ضمن ما أسماه بحركة التجديد الفقهي والفكري. وقد أسقط ذكر مدينة حلب، رغم أنها كانت في الحاضرة العثمانية أهم من مدينة دمشق، إذ إنها تلي مدينة إستامبول في الأهمية، فهي من منطقة القلب في الدولة العثمانية. وأسقط ذكر الحلبي عبدالرحمن الكواكبي مما أسماه بالموجة التجديدية الثانية التي قال عنها إنها استفتحت برجال مثل جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا، مع أنه من رواد الفكر الإسلامي الإصلاحي في العالم العربي، ومن المؤثرين في الفكر العربي القومي والفكر الإسلامي، وفي أفكار الثورة العربية الكبرى، وفي فكر إصلاحي إسلامي، كالشيخ الإيراني محمد حسين النائيني. الثغرة الكبرى في ذلك الإطار أو ذلك البناء أنه عد موقع الهند موقعاً طرفياً وليس موقعاً مركزياً، وإن كان يقصد كما تعرفنا على ذلك من قبل معنى سياسياً محدداً ومحدوداً. فللهند موقع مركزي في العلوم الدينية والثقافة الإسلامية، بل هي الأساس، فهي تحتل موقع الصدارة في القرون المتأخرة، وذلك حينما كانت العلوم الدينية والثقافة الإسلامية في بقية المناطق الإسلامية بما فيها ما أسماه البشري منطقة المحور وكذلك منطقة مستقلة عن السلطنة العثمانية كإيران، تعيش ركوداً وخموداً وتدهوراً وانحطاطاً في تلك العلوم والثقافة. ومن الثابت أن الفكر الإسلامي الحديث في معظم تياراته وكثير من مقولاته نشأ نشأة هندية. _________________________ * باحث وكاتب سعودي