كانت أغلب الزواجات وأنا طفلة تقام في الفنادق أو القاعات، ولكن ظل البعض يحتفل بالزواجات بأسطح المنازل، وكان لذلك بهجة خاصة للأطفال فينتهزون فرص المكان والزمان ويجعلون السطح والسلالم وحجرات البيت بالأسفل، التي تفتح جميعها لاستقبال الزوار، ساحة لعب لا نهائية مليئة بفرص المرح. وكان منظر السطح المهيأ للفرح جميلا، فكان ينظف جيدا ويغطى بالسجاد السميك المزخرف (الأحمر غالبا)، وتفرش لجلوس السيدات مساند وفرشات أرضية من مخمل ناعم مزين بأغصان وطيور حمراء بديعة نافرة، تغطى بقماش أبيض غاية في النظافة محلى بأطراف الدانتيل. وتقف صاحبات الدعوة للترحيب بالضيوف معطرات مكحلات مرتديات الملابس الحجازية: المحرمة والمدورة على الرأس والفستان البرنسيس الموشى بأزرار الألماس، وتنطلق الزغاريد وخاصة بقدوم أهل العريس لتكريمهم، وهذا من المقاطع المسلية للأطفال. وترص أمام المدعوات أطباق زجاجية مقسمة، مليئة بالتمر والحلوى واللوز الملبس بالسكر الملون، والتسالي الحجازية كالتفاسير (وهي كرات مربوطة من التيل تحتوي على معطرات للفم). ويخصص ركن من السطح لعمل القهوة على جمر هادئ فتفوح رائحة الهيل الممزوجة برائحة الحطب بالجو وتختلط بهما روائح البخور التي ترافق مناسباتنا الاجتماعية كافة. وكانت محضرات القهوة تروحن بمراوح من السعف على الجمر فتنطلق منه بكل الاتجاهات شرارات صغيرة حمراء مضيئة في الظلام، وسط ضحكات الأطفال وأحاديث النساء.. إنها مشاهد وروائح ومذاقات لا تنسى. وكان ارتباط الإنسان بالطبيعة ما زال قويا، فكنا ننظر من السطح للسماء السوداء فنرى القمر ونعد النجوم ليغيبنا النوم بخدر لذيذ. كانت الدنيا بسيطة وجميلة. لم تدخل ثقافتنا وقتها قيم التظاهر والإنفاق لمن يقدر ومن لا يقدر ولم يكن انعدام المقدرة عيبا وكان الجميع يتعاون. وأذكر جيدا أن النساء كن يذهبن للمناسبات ولا يحملن هم من يعيدهن لمنازلهن، فعائلة العروسين وأصدقاؤهم يتكفلون بذلك، فالضيف يكرم منذ وصوله لمغادرته، فيعود لبيته محمولا مكفولا مشمما مبخرا. وكان الأصدقاء يتطوعون ويجندون أنفسهم وسياراتهم لتوصيل المدعوات وكانت لذلك طرائف (بين من لا تعرف وصف بيتها وبين من نسيت مفتاحه) فيورطون من يوصلهن ولم يكن هناك جوالات والوقت فجرا. كانت الدنيا بخير والناس تثق ببعضها فالنساء لا يخفن على أنفسهن والرجال لا يجدون غضاضة أن يوصل أهل الفرح نساءهم، واليوم نستنكر هذا جدا إن حدث!. كان معتادا أن تكون وليمة الفرح أكلة واحدة كالسليق مع بعض السلطات ثم الحلويات والفواكه البسيطة، وأهمها (الثلاثي الشهير): التفاح والبرتقال والموز، يأكلها الناس بسعادة وبحمد وشكر. ويقدم مع القهوة والشاي (التوأم المعتاد) وهما علبتان دائريتان من الحديد: إحداهما زرقاء تحوي البسكويت الدنماركي بالزبدة والأخرى شوكولاتة كوالتي ستريت. كان الناس يذهبون للمناسبات متحمسين ويخرجون سعداء، وأما الآن في حفلات الخمس نجوم وسلاسل الفنادق العالمية فيذهبون مجبورين (وأحيانا لا يذهبون أصلا) ويعودون متململين ناقدين. سقى الله زمانا ولى. وادعو الله أن يعيد لنا صوابنا وبساطتنا وسعادتنا.