يقول دونالد ترامب إنه لا يعنيه رأي العالم فيه في شيء. العالم كله. فهل سبق أن أبدى أي مرشح رئاسي مثل هذه الجلافة والفظاظة؟ وهل هذا يهم؟ إن سوء السلوك نقيض الدبلوماسية. فهو يضعف التحالفات الدولية اللازمة للأمن المادي. غير أن ترامب ينتقص من قدر حلف الأطلسي والمعاهدات الثنائية الرئيسية مع حلفاء الولاياتالمتحدة في آسيا وأمريكا اللاتينية. كما أن سوء السلوك يقوض الأمن الاقتصادي. فترامب يدافع عن الرسوم الجمركية ذاتها التي أدت إلى إفقار الجيران وكانت سببا في الكساد الكبير في الثلاثينات وأطلقت شرارة الحرب العالمية الثانية. والأغرب من كل هذا أن ترامب يتلذذ بالإساءة للغير. وهذا أيضا سيجعل من الصعب عليه الحفاظ على الصداقات أو التعاون مع الحلفاء المعتزين باستقلالهم والحساسين للإهانة مثلما هي واشنطن. أهان المكسيك إن ترامب يهين المكسيك بالتهديد ببناء جدار على امتداد حدودها مع الولاياتالمتحدة. وهو يسيء إلى فرنسا بإلقاء اللوم عليها في مذبحتي (شارلي إبدو) . كما أنه يحقر سياسة ألمانيا «المجنونة» فيما يتعلق بهجرة السوريين ويهين بريطانيا بإطلاق وصف القوادين على المتنفذين فيها. ويزدري السياسات التجارية اليابانية والصينية، واصفا إياها بأنها سلب ونهب ويهين كل المسلمين، أي ثلث سكان العالم باقتراح منعهم من دخول الولاياتالمتحدة. ولم تقبل الدول الأجنبية ازدراء ترامب بمثل الهوان الذي أبداه الخاسرون في برنامجه لتلفزيون الواقع «المتدرب». فيصف رئيس الوزراء كاميرون، ترامب المطور العقاري في نيويورك بأنه «مثير للانقسامات وغير مفيد ومخطئ» . أما السفير الفرنسي لدى الولاياتالمتحدة فيصف ترامب بأنه «من الجوارح» ويقول إن تغريدته عن هجوم شارلي إبدو الوحشي افتقرت «للكياسة الإنسانية». ويرى كثيرون غيرهما أن ترامب مصدر تهديد للسلم. وما كان هذا ليمثل أهمية لو أنه لا وجود للاحترار العالمي والإرهاب العالمي والغموض الاقتصادي العالمي. وليس هذا هو عالم اليوم. واحتقار ترامب يغذي عداوات تهدد الأمريكيين وتسمم الصداقات التي تعتمد عليها واشنطن. وقد حمتنا المؤسسات التي ساعدت الولاياتالمتحدة في بنائها بعد الحرب العالمية الثانية من الحرب العالمية الثالثة وتمثلت في الأممالمتحدة ومنظمة التجارة العالمية وحلف شمال الأطلسي وغيرها الكثير. ولم يتطور الركود الكبير عام 2008 إلى كساد كبير آخر لأن البنوك المركزية في مختلف أنحاء العالم تآزرت على نقيض ما حدث في الثلاثينات للحيلولة دون الانهيار الاقتصادي. وبدون المودة ستتوقف آلة التعاون. شعبوي كجاكسون ويشبه بعض المعلقين ترامب بالرئيس أندرو جاكسون الشعبوي الذي أشعل نار الغضب الشعبي ودعا الغوغاء بأحذيتهم الملوثة بالطين إلى البيت الأبيض. لكن التشبيه لا يستقيم في العلاقات الخارجية. ففي عام 1828 الذي فاز فيه جاكسون بالرئاسة لم يكن يوجد تلغراف أو هاتف أو تلفزيون أو إنترنت لنقل الأخبار على وجه السرعة. ولم يقدم جاكسون أي تعليق على الشؤون الخارجية ولم يكن أحد ليعرف أو ليهتم إذا كان قد فعل ذلك. وكدولة صاعدة ضعيفة لم يكن للولايات المتحدة حينئذ تأثير يذكر على المسرح العالمي. ويمثل باري إم. جولدووتر المرشح الجمهوري السابق للرئاسة وجها أفضل للمقارنة. ومثل ترامب سعى هذا السناتور من ولاية أريزونا بكل وقاحة للمشاكسة. فأعلن في المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري عام 1964، أن «التطرف في الدفاع عن الحرية ليس بإثم». وصوت جولدووتر بالاعتراض على قانون الحريات المدنية لعام 1964 وعارض مساهمات الأمن الاجتماعي الإلزامية وأشاد بجمعية جون بيرش اليمينية المتطرفة. وفي الشؤون الخارجية أثنى جولدووتر على «سياسة الوصول إلى حافة الهاوية» الذرية واقترح تفويض قائد حلف شمال الأطلسي في استخدام الأسلحة النووية ونادى بقصف فيتنام «للقضاء على الحياة فيها». ورفض التعايش السلمي مع الاتحاد السوفييتي. وفي عالم الستينات المترابط ترابطا وثيقا عندما كانت الولاياتالمتحدة تطمح لنيل القيادة الفعلية «للعالم الحر» أطلق ترشيح جولدووتر أجراس الإنذار على المستوى العالمي. ظاهرة غريبة ووصف رئيس الوزراء السوفييتي نيكيتا خروشوف ترشيح جولدووتر بأنه «ظاهرة غريبة». وقال معلق أكثر صراحة إن الروس «يشعرون بأنهم يجب أن يأخذوا حذرهم أكثر من أي وقت مضى». وكان الحلفاء أكثر مباشرة. فقالت صحيفة ألمانية غربية في مقال افتتاحي إن جولدووتر «أخطر على السلام العالمي من ماو تسي تونج». وحذرت افتتاحية بريطانية من أنه إذا حاول جولدووتر «تطبيق سياساته فمن الممكن أن يتقوض التحالف الغربي برمته». وعلقت صحيفة فرنسية قائلة إن السناتور «يصيبك بالقشعريرة». ورحب الرئيس ليندون ب. جونسون بتحدي جولدووتر. فقد كان يعرف أن هزيمة هذا المتطرف من أريزونا ستكون أسهل من هزيمة أي مرشح آخر قد يدفع به الجمهوريون. وأطلقت حملة جونسون الإعلان التلفزيوني المشين «ديزي» لطفلة صغيرة تحصي أوراق وردة وهي تقطفها ثم يتحول الأمر إلى عد عكسي لتفجير قنبلة نووية فوق رأسها. وبعدها يظهر جونسون وهو يقول «هذه هي المخاطر». وخسر جولدووتر. ومنذ ذلك الحين لم يتسبب أي مرشح في مثل هذا الجدل الدولي الصريح. ففي العادة يحجم الزعماء الأجانب عن التعليق على الانتخابات الأمريكية في ضوء ما لديهم من آمال في التعاون مع من سيقع عليه الاختيار. وبمرور الوقت طور جولدووتر موقفا أقرب إلى تيار الوسط. واليوم يقف هو في مكان ما بين ميت رومني والسناتور راند بول في الحزب الجمهوري. ولو أنه انتخب لكانت سياساته أكثر معقولية من خطبه الرنانة. والشيء نفسه قد يكون صحيحا بالنسبة لترامب الذي يتعهد بأن يكون متعقلا وهو في المنصب. غير أن جولدووتر أحجم عن شن هجمات شخصية سواء على جنسيات أو أديان أو أفراد. وفاق ابن نيويورك ذلك القادم من أريزونا. فقد أضعف بالفعل الثقة في أمريكا وزاد الخوف منها. وستعقد إعادة بناء الثقة أهداف السياسة الخارجية التي بدأ يكشف عنها بما في ذلك إصلاح المؤسسات المهمة والاتفاقات. عداوات ومصاعب وإذا انتخب ترامب فإنه سيواجه عداء في كل حدود يعبرها. وقد وقع نصف مليون بريطاني بالفعل التماسا يطالب بمنعه من دخول البلاد. وفي أغلب الظن أن ترامب سيواجه مصاعب شديدة في التفاوض مع الزعماء الأجانب بعد أن أبدى عدم احترامه لهم. كذلك فإن المواطنين العاديين قد يجدون أنفسهم بالمثل في وضع سيئ. فالرئيس هو وجه الأمة المنتخب بحرية لتمثيل الأمريكيين كلهم. ومن المرجح أن انتخاب ترامب سيضع كل أمريكي يعمل في الخارج أو يسافر للخارج في وضع غير مريح يطالبه فيه الآخرون بتفسير سبب اختيارنا لشخص يستخف بالكثيرين. وربما كان الأهم من ذلك أن أكبر ما حققته أمريكا من نجاحات نتج عن قدرتها على إلهام الآخرين. فمنذ عام 1776 جعلت الولاياتالمتحدة الديمقراطية تبدو مغرية وجذابة. ونتيجة لذلك أصبح العالم أكثر استقرارا. أما العجرفة فتجعل ما في الأمة من إغراء يبدو باهتا وتقوض الإيمان بالمستقبل المشترك للإنسانية. من أبرز صور القرن العشرين صورة للأرض التقطها رواد الفضاء الأمريكيون من على سطح القمر. فقد كشفت الصورة عن كرة مرمرية زرقاء جميلة في الفضاء الفسيح وذَكَّرَت كل الشعوب بأن هذا الكوكب ليس كبيرا حقا. إن الاستئناس بالغير مهم للأمن والرخاء.ومن اللافت للنظر أن ترامب لا يعير ذلك اهتماما. * مؤلفة كتاب «الإمبراطورية الأمريكية» ورئيسة كرسي ميلبرنج. جلاسكوك في التاريخ الأمريكي في جامعة تكساس «إيه آند إم»، والباحثة في مؤسسة هوفر بجامعة ستانفورد، والمقالة بثتها وكالة رويترز.