منذ أيام رن جرس المحمول.. كنت أكتب في صالون البيت.. هذه جلستي المفضلة في كل أيام السنة فالصالون في شقتي أوسع الأرجاء تدخله أشعه الشمس المشرقة وتطل نافذته الزجاجية العريضة على البحر.. كان المتحدث صديقا جمع بيننا ((المستشفى الجامعي بجدة)) تبادلنا الحديث ثم قال ((قررت أن أتصل بك لأبلغك أن فلانا توفي بالأمس وأنا أعلم أنه كان أحد أصدقائك وأنك ربما لم تسمع بالخبر)) قلت له بالفعل لم أسمع قال ((سيقام الليلة العزاء ربما أردت أن تقدم واجب العزاء)) شكرته على المكالمة وسألته عن أخباره.. بعد أن انتهيت من المكالمة عدت إلى جلستي واستأنفت ما كنت أكتبه.. كانت الشمس قد اقتربت من المغيب عندما أحسست بالتعب توقفت وتذكرت مكالمة الصباح.. قررت أن أذهب للتعزية.. كان علي أن أقوم ببعض الالتزامات السريعة قبل أن أتوجه إلى العزاء.. وصلت إلى الموقع قبل صلاة العشاء بفترة.. هبطت من السيارة لأجد أفواجا من الناس يغادرون كانوا يتبادلون الأحاديث الضاحكة ولم يبد على وجوههم الحزن تصافحنا وتبادلنا بعض الكلمات التي يتبادلها المعارف دائما عندما يلتقون صدفة ((لابد أن نلتقي.. سأتصل بك لنلتقي)) ثم تفرقنا.. دخلت.. أخذت مكانا في عمق العزاء.. جلست على أقرب كرسي شاغر.. من حين لآخر كان يدخل المكان أحد المعزين يتقدم من بعض الجالسين فيقوم الآخر ويشد على يده بضع مرات.. أحيانا يحيطون بعضهم بالأحضان ويتبادلون القبلات ثم يجلسون.. كان بجواري ثلاثة يتحدثون عن برنامج ((داوود الشريان)) قال الأول كان رائعا البارحة أجابه من بجواري مباشرة كان رائعا فعلا كما كان بالغ التواضع التفت الثالث قائلا من هو المتواضع ((داوود الشريان)) هذا الرجل كان مبالغا في غطرسته رد الأول عليه بحزم كما لو أن هذا الجواب يعبر ضمنيا عن خلاف خفي.. أنا لا أطيق التواضع.. المتواضعون منافقون.. كان الجواب مغرقا في الغرابة بحيث ظل محلقا في ذهني حتى كتابة هذا المقال.. كان أمامي شخص يمعن النظر في الحضور فاغر الفم لم يكن لتثاؤبه بداية ولا نهاية كان أشبه بتثاؤب اللحن ((الفاغيزي)) النهائي ينغلق الفم دون أن يطبق تماما ثم ينفتح وينفتح بينما وبحركة معاكسة تنفتح العينان بدورهما وتغلقان.. كان ثمة معزون آخرون يتثاءبون ويستعرضون أسنانهم وما حشيت به ولبست وكذا أطقمهم ولم يكن أحد منهم يحضن فمه براحته.. خلفي حضر شخص يرتدي ((بشتا)) فاقع اللون يتحدث لمن معه عن العقار ويتذمر من انخفاض قيمته وتدهور سعر الأراضي كان صوته مزيجا عنيفا من بقبقة دجاجة غاضبة وسقسقة الطائر الصغير كأن جهازا غير بشري انطفأ في صدره أتخيله أنبوب بلاستيك لمحرك قديم.. التفت إليه فرسم على وجهه تعبيرا يقصد به إنذارا لمن سيتحدث إليه أعتقد أن الكثير من الناس يتكلفون الكثير من العناء كي تكون لهم هذه النظرة.. كنت ألوذ بالصمت كما تجبر الطيور على الصمت أحيانا في الغابات صمت كصمت العصافير النائمة على رؤوس الشجر.. رغم صمتي المتجهم إلا أنني كنت أريد أن أصب عليهم كل ما أكظمه من ألوان العتاب لكنني تمالكت نفسي بصبر طبيب عجوز.. كانت مسرحية لا تشبه الكثير من المسرحيات لأن أحداثها لا تعتمد على ما يحدث في المسرحيات بالشكل المتعارف عليه وإنما كل شيء يحدث فيها عن عمد وبشكل فج ومتكرر ومريع وعبثي.. كل تحية من التحيات تتبعها درجة من درجات المزاح لابد أن تمتلك مشاعر كبيرة من الخزي والاستنكار وأنت تتأمل ما يحدث على نحو مقزز.. لا يمكنك العيش في هذا العالم متحملا هذا العبء بداخلك.. كان كل ما يحدث أمامي كسمكة تتململ داخلي ببطء دون أن أقوى على تقيؤها.. يبدو أنني لم أعد أتوافق مع هذا العالم الذي أعيش فيه.. عزاء تحول كل شيء فيه من الحزن إلى الجنون اختفت فيه رهبة الموت.. تلاشى الاحترام للميت.. يظل الموت إلى حدود سن معين أبعد من أن نهتم به.. يكون غير منظور وغير مرئي لكن عندما يلوح لنا عبر وفاة قريب أو عزيز يكون مستحيلا علينا إزاحته من مجال الرؤية لا يستطيع الإنسان تحويل بصره عن الموت عندما ينتصب أمامه في شكل غياب أبدي تخور القوى ويحتل الفرد منا إجهاد ويصبح الحزن الجسر الصامت الذي يقود من في ضفة الحياة إلى ضفة الموت ويكون الموت أقرب إلى المرء يضرب موقف الموت القلب والمشاعر ويترك أثرا بالغا لا ينسى ليس الشعور بالحزن فقط.. بل أكثر من ذلك أنا عاجز عن التعبير بالكلمات عن حقيقة ما يترك الموت في بالضبط غير أنني لا أجانب الحقيقة كثيرا إن قلت إنه يحتلني شعور عظيم بالفقد المضاعف الموجع.. تمنيت لو كانت لدي ((ريشة دجاجة)) ريشة الدجاجة تعني نداء الاستغاثة العاجل عند الصينيين يعلقونها على جباههم لطلب العون تمنيت لو كانت لدي واحدة لأضعها على جبهتي في هذا السيرك بعد أن تقدم مني أحدهم كان يقفز كبرغوثة بين الكراسي في كل الاتجاهات يؤكد على الحضور البقاء للعشاء.. كنت أتظاهر بالإنصات إلى كلامه لكنني كنت أنتقل بذهني إلى مكان قريب حيث عربتي.. ما إن انفض العزاء حتى فررت إليها كما يفر العصفور عندما يجد باب قفصه مشرعا.. في طريقي للعربة شعرت بسخونة في جسدي وأنا أتأمل البوفيه العريض الممتد منتصبا في الخارج.. شعرت بما يمكن أن ينتاب المرء من شعور عند رؤية الأموال وهي تتبعثر من فوق جسر أو تتناثر عاليا في الهواء من يد مخبول.. سرت باتجاه العربة وألم مزمن يعتريني يبدو أنه سيصاحبني في كل مناسبة عزاء مشابهة وقد يصاحبكم أنتم أيضا!!